ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "التحذير من الإرجاف والمُرجفين"، والتي تحدَّث فيها عن الإرجاف والمُرجِفين، مُحذِّرًا من سُلوك سبيلِهم، ومُبيِّنًا أن الإرجافَ من أبرز علامات المُنافقين، كما حثَّ المُسلمين على ضرورة التثبُّت من الأخبار، وعدم نقلِ أي خبرٍ دون تثبُّت؛ بل والسعي في عدم نشر ما يُحبِطُ المُسلمين ويُثبِّطُ هِمَمهم، كما نبَّه على ما ينبغي على المُسلمين أن يفعَلوه تِجاه الإرجاف وأهله.
الخطبة الأولى
الحمدُ لله، الحمدُ لله شرحَ صدورَ أهل الإيمان بالهُدى، وطبعَ على قلوب أهل الغيِّ فلا تعِي الحقَّ أبدًا، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه على نعمٍ أُحصِي لها عددًا، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهًا واحدًا أحدًا، فردًا صمدًا، سبحانه وبحمده لم يتَّخذ صاحبةً ولا ولدًا، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه شرُف عبدًا وعظُم سيِّدًا، عزَّ مُهاجَرًا وطابَ مولِدًا، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِه أهل الشرفِ والسيادةِ والنَّدى، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين أنصار الدين وليوث العِدَا، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا أبدًا سرمَدًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، فمن علامات التوفيقِ للتقوى: تيسيرُ الطاعة، ومُوافقةُ السنَّة، وحُسن الخُلُق، وبذلُ المعروف، وحفظُ الوقت، والاهتمامُ بالمُسلمين، وصُحبةُ أهل الصلاح.
والمُؤمنُ مرآةُ أخيه، وكلٌّ مُيسَّرٌ لما خُلِق له، ومن استخارَ ربَّه، واستشارَ صديقَه، وبذلَ وُسعَه فقد أدَّى ما عليه، وارتفعَت عنه الملامَة، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97].
أيها المسلمون:
حدثٌ صغيرٌ أو خبرٌ كاذِب، أو قولٌ مشكُوكٌ فيه، أو معلومةٌ مُجتزأَة فيها حقٌّ وفيها باطل، كلُّ ذلك يجعلُونَه نبأَ الساعة، أو الخبرَ الرئيس، فيملأون به الإذاعات، وتزدحِمُ به الشاشات، وتُعقَدُ له الندوات، وتتزاحَمُ عليه الصور، وتُدبَّجُ فيه المقالاتُ والتعليقاتُ، وتتواصَلُ فيه المُتابعات والتغريدات.
حتى يجعلُونَه إما أُعجوبةَ الدهر، وإما قاصِمةَ الظهر. من غير مِصداقيةٍ ولا تروٍّ ولا مُعالجةٍ صحيحة، ثم ينقشِعُ الغُبار، ويتبيَّنُ الحال، فلا ترَى أثرًا، ولا تسمعُ خبرًا.
إرباكٌ للنفوس، وصرفٌ عن المُهمِّ، وإشغالٌ عن مصالِح الأمة. يصحَبُ ذلك كلَّه تخويفٌ وتهويلٌ وتضليلٌ.
تُرى - يا عباد الله - من الذي يصنعُ ذلك كلَّه؟ ومن الذي يحمِلُ وِزرَ هذه المُجازفات؟ إنه الإرجافُ والمُرجِفون. يُثيرُون ما يُولِّدُ الاضطرابَ والقلقَ، وينشُرون ما يُورِثُ عدمَ الاستِقرار، ويبُثُّون كلَّ ما يُحبِطُ ويُثبِّط. يخُوضُون في الأمور العامَّة من قبل أن يتبيَّنُوا حقائقَها، أو ينظرُوا في آثارِها وعواقبِها.
معاشر الأحبَّة:
في الإرجاف تُبتَرُ العبارات، وتُقطعُ النصوصُ عن سِياقاتها وسِباقاتها، ثم يكون التعليقُ عليها بما لا يجُوز وما لا يصحُّ، وما لا تتحمَّلُه تلك النصوص، وما لا تصحُّ فيه النسبةُ لقائلٍ.
الإرجافُ والتخذيلُ يُوهِنُ العزائِم، ويُثبِّطُ الهِمَم، ويُضعِفُ القُوَى، ويفُتُّ في العضُد، ويُشكِّكُ في القُدرات والإمكانات، ويُعظِّمُ الأعداءَ في الأعيُن، ويتبنَّى قصصًا وقضايا وأحداثًا تدورُ حول الإحباط والتشاؤُم والفشَل.
في الإرجاف تظهرُ المُجتمعات وكأنها فاسِدةٌ لا تحملُ خيرًا أبدًا. يتحدَّثُون عن الفاسِدين والمُنحرِفين، فيظنُّ السامِع أن الثابِتين على الحقِّ قليل، وأن الصالِحين أقل.
يخذُلون الصالِحين والمُصلِحين، وكأن الصالِحين لا يعرفون طريقَهم، والمُصلِحين لا يهتَدون إلى سبيلِهم. يُكبِّرون الأخطاء، ويُعظِّمُون الزلاَّت، يرفَعون الوضيع، ويضَعون الرفيع، يُكبِّرون الصغير، ويُصغِّرون الكبير، ويصُدُّون عن التلقِّي. يُغيِّرون ويُبدِّلون ويُحرِجون ويجرَحون ويتجرَّؤون على وُلاة الأمور. يقتُلون الهِمَم، ويئِدون الإبداع، ويُقلِّلون من مقام الناجِحين.
أهلُ الخير عندهم لا مكانَ لهم، وأهلُ الباطل في رُؤيتهم هم المُمسِكون بزِمام الأمور، فتُنتزَعُ الثقةُ من أهل الفضل، ويختفِي التأسِّي بالقُدوات وأهل الصلاح.
يخوضُون في الأمور الدينية، والأحداث السياسية، والقضايا الاقتِصاديَّة، والحوادِث الأمنية، والمسائل الاجتماعية، والشُؤون التربوية والصحية والتعليمية، وفي كل الميادين تراهُم يخُبُّون ويضَعون.
يُعظِّمون من شأن الأعداء والخُصوم، ويتكلَّمون عن القُوَى في العالَم في عددهم وعُدَّتهم، يرفَعون من شأنهم ويحُطُّون من قومِهم وأهلِيهم. في ذِلَّةٍ وخُضوعٍ سيرًا في رِكابِ الأقوياء من الأعداء من حيث يشعُرون أو لا يشعُرون.
وإن في التحالُف الإسلامي المُبارَك، وعواصِف الحَزم والأمل، والتحوُّلات الكُبرى ما يرفعُ الرُّؤوسَ، ويدحَضُ الدعاوَى، ويُنيرُ الطريقَ، ويرسُمُ السبيل، ويفضحُ هذه المسالِك.
أيها الإخوة:
المُرجِفون سبيلُهم التعويق والتخذيل ونشرُ الفتن، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب: 18]، لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا [التوبة: 47].
الإرجافُ سبيلُ المُنافقين، لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب: 60].
المُرجِفُ يتكلَّمُ عن الداء، ولا يُبالِي بالدواء. يُثيرُ العيوبَ ويُخفِي الفضائلَ، يقعُ على السلبيَّات ويصُدُّ عن الإيجابيات، فتظهرُ السوءات وكأنها هي السِّمةُ السائِدة في المُجتمع، والصفةُ الغالِبة في الأمة، في تخذيلٍ وتضليلٍ وشيءٍ من الحقِّ قليل. الإرجافُ في مآلاته عُدوانٌ على الأمة، وتطاوُلٌ على أهل الحق.
أيها الإخوة:
وميادينُ الإرجاف واسِعة؛ في الصحف، والمجلات، ومواقع العمل، والمسجد، والمدرسة، وأماكن التجمُّعات. فتُنشرُ الأخبار، وتتصدَّرُ الأحداث، وتُبرزُ في خطوطٍ عريضة، وصُورٍ كريهة، وأساليب ساخِرة. يُلبِّسُون ويُردِّدون ويُعلِّقون ويُضحِكون القومَ، يرفعُون من شاءوا ويخفِضُون من شاءُوا.
وتحمِلُ أدواتُ التواصُل الاجتماعي في ذلك وِزرًا كبيرًا، وإثمًا عظيمًا حينما تُسارِع في نشر الأكاذِيب، وتضخِيمِ الأحداث، وبتر الحقائِق، وتُكثِرُ من تداوُلها وإعادة تدويرِها.
عباد الله:
ولقد قرَّر أهلُ العلم أن الإرجافَ طريقٌ حرام لا يجوزُ الإقدامُ عليه.
يقول القرطبيُّ - رحمه الله -: "والإرجافُ حرامٌ لما فيه من أذِيَّة أهل الإيمان؛ بل ألأحقَه بعضُهم بكبائِر الذنوبِ؛ لأن الله لعنَهم في كتابِه وقرنَهم بأهل النفاق، فقال: مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا [الأحزاب: 61]، وأمرَ نبيَّهم بنفيِهم ومُقاتلتهم".
وتشتدُّ الحُرمة في أيام الفتن، وظروف تسلُّط الأعداء، وما ذلك إلا لأن الإرجافَ لو فشَا في الناسِ فإنه لا يزيدُهم إلا شرًّا وفسادًا، وضعفًا وهوانًا، وفتنةً وفُرقةً.
معاشر الإخوة:
ويأتي من بعد المُرجِفين: السمَّاعون عُمَّارُ المجالِس، لا يفتَؤُون يُردِّدون الأحاديث، وينشُرون الأراجِيف في المُجتمع الصغير والكبير، وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة: 47]، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة: 52].
يُخطِئون في قراءة الأحداث، ويُشوِّهون الواقِع؛ بل لعلَّهم يُزوِّرون التاريخ، ويجعَلون البئرَ المُعطَّلة قصرًا مشيدًا، ويهرِفُون بما لا يعرِفون.
وكم من المُتابِعين والمُغرِّدين مساكين يسلُكون مسالِك المُرجِفين والمُخذِّلين والمُثبِّطين، سُذَّجٌ جُهلاء، يسمَعون لهؤلاء المُخذِّلين المُرجِفين، ويُفتَنون بهم ويُردِّدون مقُولاتهم، وينشُرون أراجِيفَهم، فيتولَّدُ من هؤلاء وهؤلاء من الشرِّ والبلاء على الأمةِ ما لا يخفَى، ومن العَون للأعداء ما لا يُنكَر.
معاشر المسلمين:
إن للإرجافِ والمُرجِفين مقاصِد ومآرِب؛ من الإرهاب الفكريِّ، والحرب النفسيَّة، وتوهِين العزائِم، وإدخال الهمِّ والحزَن على أهل الحقِّ والغَيُورِين على مصالِح الدين والأوطان والأمة، وبثِّ الفتن والاضطراب بين الناس، وفُقدان الثقة، والنَّيل من الكُبرَاء وأهل الفضلِ والاقتِداء.
ناهِيكُم ببعضِ المُغفَّلين الذين ينقُلون الأخبارَ والأحداثَ من غير تروٍّ ولا حِكمةٍ، ولا نظرٍ في المصالحِ والمفاسِدِ، والمقاصِدِ والمآلاتِ، من المُسارِعين والمُسابِقين في مُنافساتٍ غير شريفةٍ؛ بل قد يكون باعِثُه كُرهَ الآخرين، والتعصُّب المقيتَ من أجل إساءَة السُّمعة، وخفضِ المكانة، وهزِّ الاستِقرار، ونَزعِ الثقةِ.
ولهذا فيُلاحَظُ - عباد الله - اقتِرانُ الإرجاف بالفوضَى والتشتُّت والانفِلات، والبُعد عن الانضِباط والهُدوء. فلا يُرى مُرجِف إلا قلِقًا مُكتئِبًا مُتوجِّسًا، سيِّئَ الظنِّ، مُحبَطَ النفس، دائِمَ الشكوَى، كثيرَ التبرُّم، عابِثَ الملامِح. الأملُ عنده خيبة، والإنجازُ لديه عَثرة، لا يرى إلا القسوةَ والشرَّ، ويعمَى أن يرَى البُشرَ في الوُجوه، والخيرَ في الناسِ.
إنه إسقاطٌ لمُعاناةٍ نفسيَّة، ومعايبَ أخلاقيَّة؛ بل هروبٌ من المسؤوليَّة، وتسويغٌ لسُلوكيات عنده خاطِئة؛ ليُرضِيَ نفسَه، ويُسوِّغَ مسالِكَه.
معاشر الأحبَّة:
والمُرجِفون والمخذُولون لا يضُرُّون إلا أنفسَهم، فقد حرَموا أنفسَهم أن يراهم ربُّهم في مواطِن يُحبُّها؛ من نصرِ أمَّتهم والسعيِ في رِفعتها، وإعلاء همَّتها ونصرِها. وغالبًا ما يتولَّى كِبرَ الإرجافِ الأعداءُ والمُنافِقون، ثم يأتي بعدَهم بُسطاءُ سُذَّج.
ومن المُؤلِم أنهم من أهل الدار يعرِفون المداخِل والمخارِج والمخادِع، ثم يستقبلُهم من يستقبلُهم من العوامِّ والدَّهماء.
وبعدُ - حفِظَكم الله -:
فعلى أهل الإسلام الغيُورِين إدراكُ خطورة هذا المسلَك، وعِظَمُ إثمِه وعظيمُ أثره، وعليهم التحرِّي في النقل وفي الاستِماع دون مُبالغاتٍ كلاميَّة، ولا مُؤثِّراتٍ صُورية؛ فالمُسلِمون في خندَقٍ واحدٍ وسفينةٍ واحدةٍ، وأهلُ الإيمان لا يضُرُّهم من خذلَهم ولا من خالفَهم، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران: 120].
واحذَر - يا عبد الله - أن تكون مُرجِفًا، أو أن يُرجَفَ عليك. كم هو جميلٌ أن تجعلَ من أُذنِك غِربالَ تصفيةٍ لتُميِّز أصواتَ المُخذِّلين، ونداءات المُرجِفين، وتسمعَ إلى القول فتتبِّعَ أحسنَه.
واحذَر - حفِظَك الله - أن تكون مُخذِّلاً لأمتك، ناصِرًا لأعدائِها من حيث تشعُر أو لا تشعُر.
وليعلَم كلُّ صاحبِ قلمٍ وموقعٍ وتدوينٍ أنه موقوفٌ بين يدَي الله، مسؤولٌ عن كل حرفٍ يُسطِّره، أو لفظٍ يُدوِّنُه، أو صُورةٍ ينشُرُها.
ومن لطيفِ حُكم الله وحِكمته: أن أهلَ الحقِّ والعلمِ والإيمانِ من الراسِخين الأثباتِ يزيدُهم الله ثباتًا، فيتمعَّرُ قلبُ المُؤمن، ويرفعُ الله درجاته بهذا التمعُّر وعدم الرِّضا والغَيرَة على دينِ الله، وكُره الباطلِ بما لا يبلُغُها بكثرةِ صيامٍ ولا صلاةٍ.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب: 60- 62].
نفعَني الله وإياكم بهدي كتابِه، وبسُنَّةِ نبيِّه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله لي ولكم ولسائر المُسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفِروه، إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله على هدايتِه، والشكرُ له على نعمتِه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مُقِرٌّ بوحدانيَّته، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه رحِمَ الله العالَمين ببعثَته، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِه السادة عِترتِه، وعلى الأكرَمين صحابتِه، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وسارَ على نهجِه وطريقتِه، وسلَكَ سبيلَه والتزمَ بسُنَّتِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا إلى أبَد الدهرِ ونهايتِه.
أما بعد .. معاشر المُسلمين:
قد يُوجد من هو حسَنُ القصد، صادِقُ الغَيرة، يظنُّ الخيرَ والصلاحَ والإصلاحَ في إيراد مثلِ هذه المُرجِفات والأحداث المُقلِقة، ويظنُّ أنه يُبصِّرُ الناسَ ويُحذِّرُهم من المخاطِر، لكنَّه لم يُوازِن بين المحاسِنِ والمساوِئ، والإيجابيات والسلبيَّات.
فلا يعلَقُ عند السامِع والمُتلقِّي سِوى اليأس، وفساد الناس، واستِفحال الداء، فتخُورُ العزائِم، وتثقُلُ الهِمَم.
ومن أجلِ هذا فينبغي التفريقُ بين الإرجاف والنصيحة والإنكار؛ فالنصيحةُ لازِمة، وإنكارُ المُنكَر لا بُدَّ منه، والأمرُ بالمعروف مُتعيِّنٌ مُتحتِّم.
أما الإرجافُ فهو ما ينشُرُ رُوحَ الانهِزام والانهِزاميَّة واليأس، على حدِّ قولِه - صلى الله عليه وسلم -: «من قال: هلَكَ الناسُ فهو أهلكَهم»؛ رواه مسلم.
أما النصيحةُ وتحذيرُ المُسلمين، فيكونُ فيما يقعُ من مفاسِد ومُخالفات، مع الاتِّزان في الكلام، ومُراعاة أحوال الناس والظروف والمُناسبات، مما يبرُزُ فيه سُلوك مسلَك الحكمة والموعِظة الحسنة؛ بل إنه ليُقدِّمُ العلاجَ الناجِع، والحلَّ النافِع.
فالمُصلِحُ الناصِحُ يعرفُ الداءَ لتشخيصِه من أجل الوُصولِ إلى الدواء، ويعرفُ العيوبَ ليُعالجَها، ويعرفُ مِقدارَ نسبتِها إلى الفضائل.
معاشر المسلمين:
ومن الإرجافِ وسبيلِ المُرجِفين: مُحاولةُ التشويش على المُسلمين، والقصدُ إلى نشر الفوضَى والبلبَلَة تحت أي دعوَى، واستِهدافُ رابِطةِ الإسلام التي لا يعدِلُها رابِطة، وأُخُوَّةُ الدين التي لا يُماثِلُها أُخُوَّة.
ولاسيَّما حينما يتوجَّهُ المُسلِمون إلى هذه البلاد والديارِ المُقدَّسة حجًّا وعُمرةً وزيارةً، فإنهم يتمثَّلُون وحدتَهم الجامِعة، ويتناسَون خلافاتهم، فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197].
بل إنهم يُوقِنون وهم مُتوجِّهون إلى هذه الديار الطاهِرة في شعائِرِها ومشاعِرِها، مُوقِنون أنها ليست ميدانًا لنقل الخلافات وتصفِية المواقِف، لكن يأتي هؤلاء المُرجِفون من أعداء الأمة ومن يدورُ في فلَكِهم، ويُحاولون أن يصرِفُوا الأنظارَ عن مُعاناةٍ يعيشُونها في بلادهم، ومُشكلاتٍ يُعانِي منها مُواطِنوهم، ويُريدون في إرجافِهم أن يستغِلُّوا مواسِم العبادة، وتجمُّعات المُسلمين، والمشاعِر المُقدَّسة لأغراضٍ مُسيَّسة، وتشويشٍ وبلبَلَة. مما يقودُ إلى الانشِقاقات والفُرقة وزرع الفتن.
معاشر المسلمين:
إن جرَّ المُسلمين إلى هذا إفسادٌ لمقاصِد هذه الشعائِر والمشاعِر، وسعيٌ في حِرمانِ ضُيوفِ الرحمن من الأمن والأمان، والتفرُّغ للعبادة، واستِشعار قُدسيَّة الزمان والمكان. في مسيراتٍ ومُظاهراتٍ وتجمُّعاتٍ ونداءاتٍ وشِعاراتٍ ليست من دينِ الله في شيءٍ، مما لم يأذَن به الله في كتابِه، ولا رسولُه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح من سُنَّته، ولم يقُل به أحدٌ من أهل العلم، ولم يفعَله أحدٌ من أهل الإسلام سلَفًا وخلَفًا.
من أجل هذا فإن من ثوابِتِ سياسةِ المملكة العربية السعودية، خادِمة الحرمين الشريفين وراعيتهما وحاميتهما - بإذن الله - عدمُ السماح لأي أحدٍ أو أي جهةٍ بتعكير صفوِ المُقدَّسات، والعبَث بأمن الحُجَّاج والعُمَّار والزوَّار.
وهي مُلتزِمةٌ ومسؤولةٌ عن اتِّخاذ كل التدابير الحازِمة الصارِمة للحِفاظ على أمنِ البلاد وأمنِ الناس؛ المُواطِن والمُقيم والعاكِف والبادِي.
إن خادمَ الحرمين الشريفين ونوَّابَه ورِجالَ دولته وشعبَه يبذُلون الغالِيَ والنفيسَ في خدمة الحرمين الشريفين، وخدمةِ قاصِديهما؛ قُربةً لله وشعورًا بالمسؤولية. بُرهانُ ذلك: ما تقرُّ به عينُ كل مُسلمٍ من الأعمال والخدمات والمشروعات والإنجازات، مما يراه ضُيوفُ الرحمن، ويُشاهِدُه كلُّ قاصِدٍ لهذه الديار المُقدَّسة رأيَ العين، ولسوفَ يرَون المزيدَ والمزيدَ - بإذن الله -.
ألا فاتَّقوا اللهَ - رحِمكم الله -، والزَموا سبيلَ التعاوُن والتآلُف، والتناصُح المُخلِص، والتراحُم، وكل ما يجمعُ الكلمة وينبِذ الخلاف، ويمنعَ الإرجافَ، ويُعِزُّ أمةَ الإسلام، ويحفظُ على المُسلمين دينَهم، ويبسُطُ في الديار أمنَهم.
هذا، وتقرَّبُوا إلى ربِّكم وإلى نبيِّكم محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بالصلاةِ والسلامِ على هذا النبي المًُصطفى الحبيب، والحبيب المُجتبَى؛ فبالصلاةِ والسلامِ عليه امتِثالٌ لأمر الله، ويُصلِّي الله عليكم وملائكتُه.
بالصلاةِ على محمدٍ تُرفعُ الدرجات، وتُحطُّ السيئات، وتُكتبُ الحسنات، ويُجابُ الدعاء، ويُكفَى المُسلمُ ما أهمَّه وما أغمَّه.
بالصلاةِ المُحمديَّة الزكاةُ والطهارةُ، والطريقُ إلى الجنة، والنورُ على الصراط، والتثبيتُ عليه، والفوزُ بالثناءِ من أهل الأرض والسماء، ونَيلُ رحمةِ الله ومحبَّة رسولِ الله الله - صلى الله عليه وسلم -، إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
وفي الحديث الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من سرَّه أن يكتالَ بالمِكيال الأوفَى إذا صلَّى علينا أهلَ البيت، فليقُل: اللهم صلِّ على محمدٍ النبي الأُمِّي، وأزواجه أمهات المُؤمنين، وذُريَّته وأهلِ بيتِه، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد»؛ أخرجه مسلم وغيرُه.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إن حميدٌ مجيدٌ.
وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاةَ والملاحدةَ وسائرَ أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافَك واتَّقاك، واتَّبَع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتَك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، ووفِّقه ونائِبَيْه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المُؤمنين، واجمَع كلمتَهم على الحقِّ والهُدى يا رب العالمين.
اللهم أصلِح أحوال المُسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، واجمع على الحقِّ والهُدى والسنَّة كلمتَهم، وولِّ عليهم خيارَهم، واكفِهم أشرارَهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرخاءَ في ديارهم، وأعِذهم من الشُّرور والفتن ما ظهرَ منها وما بطَن.
اللهم من أرادنا وأرادَ دينَنا وديارَنا وأمَّتنا وأمنَنا وولاةَ أمرنا وعلماءَنا وأهلَ الفضل والصلاح والاحتِساب منَّا ورجال أمننا وقواتنا ووحدتنا واجتماع كلمتنا بسوءٍ، اللهم فأشغِله بنفسِه، اللهم فأشغِله بنفسِه، واجعَل كيدَه في نحرِه، واجعَل تدبيرَه تدميرًا عليه يا قوي يا عزيز.
اللهم انصُر جنودَنا المُرابِطين على الحُدود، اللهم سدِّد رأيَهم، وصوِّب رميَهم، وشُدَّ أزرَهم، وقوِّ عزائِمَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم أيِّدهم بتأييدك، وانصُرهم بنصرِك، اللهم احفَظهم من بين أيدِيهم ومن خلفِهم وعن أيمانِهم وعن شمائِلِهم، ونعوذُ بك اللهم أن يُغتالُوا من تحتِهم، اللهم ارحَم شُهداءَهم، واشفِ جرحاهم، واحفَظهم في أهلِهم وذُريَّاتهم، إنك سميعٌ مُجيب.
اللهم وأبرِم لأمة الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصِية، ويُؤمرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المُنكَر، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم إن لنا إخوانًا مُستضعفين مظلُومين في فلسطين، وفي سُوريا، وفي بُورما، وفي أفريقيا الوسطى، وفي ليبيا، وفي العراق، وفي اليمن، اللهم قد مسَّهم الضُّرُّ، وحلَّ بهم الكربُ، واشتدَّ عليهم الأمر، تعرَّضوا للظلم والطُّغيان والتشريد والحِصار، سُفِكَت دماؤُهم، وقُتِّل أبرياؤُهم، ورُمِّلَت نساؤُهم، ويُتِّم أطفالُهم، وهُدِّمَت مساكنُهم ومرافقُهم.
اللهم يا ناصِر المُستضعَفين، ويا مُنجِي المؤمنين! انتصِر لهم، وتولَّ أمرَهم، واكشِف كربَهم، وارفع ضُرَّهم، وعجِّل فرَجَهم، وألّّف بين قلوبهم، واجمع كلمتَهم، اللهم مُدَّهم بمددك، وأيِّدهم بجُندك، وانصُرهم بنصرِك.
اللهم إنا نسألُك لهم نصرًا مُؤزَّرًا، وفرَجًا ورحمةً وثباتًا، اللهم سدِّد رأيَهم، وصوِّب رميَهم، وقوِّ عزائِمَهم.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين ومن شايعَهم، ومن أعانَهم، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، ومزِّقهم كلَّ مُمزَّق، اللهم واجعَل تدميرَهم في تدبيرهم يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم وأنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القومِ المُجرمِين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورِهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].
سُبحان ربِّك ربِّ العزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله رب العالمين.