تحميل صور
على الرغم من الهزات العنيفة التي تعرض لها النظام الإقليمي العربي والتي تمثلت في نكبة 1948 وتشكيل كيان الدولة العبرية المصطنع في قلب الوطن العربي, ونكسة 1967 التي أفضت إلى ضياع المزيد من الأراضي العربية فإن ثمة قضايا كلية جامعة ظلت محافظة على الكيان العربي ومجسده لطموحاته وأهدافه, فقد أضحى هدف التحرير واستعادة الأراضي العربية المغتصبة محل اتفاق بين الإخوة وإن فرقتهم السياسة والعقائد والأيديولوجيات. بيد أن غزو العراق للكويت عام 1990 بات يشكل نقطة فاصلة وحاسمة في التاريخ العربي المعاصر، حيث بدأ بعض المحللين يتحدث عن نهاية مفهوم الجامعة العربية وعن بداية ما يمكن أن نطلق عليه حربا باردة عربية. وقد تجسد ذلك بشكل واضح في الأجواء التي سبقت انعقاد قمة دمشق العربية الأخيرة. وأيا كان الأمر فإن ملامح الفترة التي نعيشها اليوم تدعو إلى القلق واليأس، ومن ذلك:
أولا: غياب القضايا العربية الكلية التي تحظى باتفاق عام. فإذا كانت القضية الفلسطينية مثلت، ومنذ البداية، نقطة يلتف حولها كل العرب وتتصدر جدول أعمالهم المشتركة فإنها أضحت بعد عمليات الهرولة والتطبيع مع «إسرائيل» من جانب بعض أقطاب النظام العربي لا تخرج عن مجرد كونها واحدة من الملفات المتراكمة والمؤجلة في بعض الأحيان, بل والأخطر من ذلك فقد بات البعض ينتظر أن يأتي حل هذه القضية «المشكلة» من جانب القوى الدولية الفاعلة!
ثانيا: أدت عملية تحرير الكويت وما ترتب عليها من آثار ونتائج كان أبرزها سقوط بغداد وعودة المحتل الغاضب إليها, إلى ظهور مبدأ الاستقواء بالأجنبي في التفاعلات العربية البينية. يعني ذلك الخروج على آليات التعامل المؤسسي والتي تحددها قواعد العمل العربي المشترك وهو ما أعطى بعض الدول العربية أدوارا إقليمية لا تتفق مع إمكانياتها وقدراتها الطبيعية. لقد بات النظام العربي يعاني خللا واضحا في قواعده وآلياته.
ثالثا: غياب الدولة، أو الدول الإقليمية التي تمارس دورا قياديا فاعلا يِؤسس لعمل عربي مشترك ويعبر عن الإرادة الجماعية العربية، فالناظر إلى مصر قلب العروبة يجد أنها مكبلة ومنكفئة على الذات فأضحت كالفيل الكبير الذي أرهقته السنون والأيام فراح مستلقيا في ثبات عميق، أما العراق فقد تم تدميره وإهدار إمكانياته ومحو رصيده الاستراتجي. وفي بلاد المغرب أضحت الجزائر كالهرة تأكل أولادها فأضحت عيونها مفتوحة على الداخل. وهكذا فقد العمل العربي المشترك القيادة والبوصلة معا، وهو ما دفعه إلى طرق غير واضحة المعالم.
رابعا: سيطرة الاعتبارات الأمنية على ما عداها في قائمة أولويات نظم الحكم العربية وهو ما دفع يبعضها إلى اللجوء إلى قوى خارجية لضمان أمنها الأمر الذي أدى إلى النيل من منظومة الأمن العربي المشترك. وليس بخاف في هذا السياق أن أمن الخليج العربي أضحى مرتبطا بشكل مباشر بالأمن القومي الأميركي، وأصبحت الولايات المتحدة ومن خلال اتفاقات ثنائية مع دول المنطقة هي الضامن الرئيس لقضية الأمن الإقليمي ضد المخاطر الخارجية التي تهدده. دفع ذلك بالنظم العربية في ضوء تآكل شرعيتها الداخلية وتصاعد التحديات التي تواجهها إلى اللجوء إلى وسائل القمع والإكراه المدني التي تمتلكها والتي تساعدها على البقاء في السلطة, وهو ما يعني مزيدا من التسلطية في الواقع العربي الراهن.
خامسا: تصاعد تيار التطرف والعنف بين بعض القوى السياسة العربية ولا سيما المحجوبة منها عن الشرعية. أفضى ذلك إلى خلق معضلة عربية حيث أضحت الدولة الوطنية في ظل الضغوط الخارجية والداخلية التي تتعرض لها هشة وضعيفة في حين تمكنت بعض القوى الأخرى والتي تتبنى خطابا سياسيا معاديا لحالة الاستكانة والعجز العربي من أن تفرض إرادتها ولربما على حساب الدولة, ويمكن هنا أن نشير إلى خبرة حزب الله في لبنان, وتيار المحاكم الإسلامية في الصومال, وحركة المقاومة المناهضة للاحتلال في العراق.. وهلم جرا.
واستنادا إلى ما سبق انتقل العرب من حقبة هيمنة الخطاب الوطني التحرري، والذي عبر عن نفسه في شكل تحالفات إقليمية ودولية معينة -مستفيدا من شروط المرحلة التي كان يعيشها- إلى حقبة أخرى جديدة تغيرت فيها هذه الشروط والأدوار وهو ما أدي إلى ظهور خطاب عربي جديد هو أقرب إلى «العدمية» منه إلى التحرير والنهضة. وباتت النظم العربية تقاوم رياح التغيير والإصلاح العاتية مستفيدة من سياسة اللين التي تنتهجها الولايات المتحدة تجاهها. لقد بات العرب وكأنهم خارج التاريخ لا يفقهون لغة السياسة زمن العولمة المتوحشة فسقطت من معاجمهم السياسية مفردات المصلحة والمناورة والتكتيك وعوضا عن ذلك ارتموا في أحضان (الأميركي) و(الأوروبي) طمعا في أن يأتي الفرج علي أيديهم.! وعلى الرغم من ظهور أفق جديدة لتعدد محتمل في المراكز الدولية الفاعلة في النظام الدولي الراهن مثل الصين والهند وألمانيا فإن العرب لا يلقون بالا ويصرون دائما بأن يلقوا بكل ما لديهم في سلة واحدة.
أقول بعد أن فوتنا جميع الفرص المتاحة وأضحت جميع الملفات مهملة بل وفي أحيان كثيرة نتركها لقوى إقليمية ودولية أخرى لتحسمها وفق رؤاها بالنيابة عنا، كما حدث في الصومال والسودان ويحدث اليوم في جزر القمر: دعونا نجرب طريقا آخر لعله ينهي تلك الحالة «العدمية» العربية ويعيد الروح إلى بيت العرب فينتقل إلى دائرة الفعل بدلا من الاستكانة دائما لوضعية المفعول. هل يمكننا أن نتحدث لغة المصلحة والاقتصاد فنسعى إلى تحقيق التكامل الاقتصادي العربي بمستوياته المتعددة؟ أم إن ذلك مرهون مرة أخرى بالإرادة السياسية لنظمنا الحاكمة فيصبح الأمر وكأننا نسير في دائرة مغلقة؟ هذا هو التحدي أيها العرب.!
ـــــــــــ
د. حمدي عبدالرحمن ( صحيفة العرب القطرية 30/3/2008م) بتصرف.
منقوله