::: مـنتدى قبيلـة الـدواسـر الـرسمي ::: - عرض مشاركة واحدة - كشف شبهات الرافضة ، للشيخ سليمان الخراشي.
عرض مشاركة واحدة
قديم 08-02-2007, 10:43 AM   #28
 
إحصائية العضو







الفتى السديري غير متصل

الفتى السديري is on a distinguished road


افتراضي رد: كشف شبهات الرافضة ، للشيخ سليمان الخراشي.

الشبهة(30): طعوناتهم في أبي بكر رضي الله عنه

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :

قال الرافضي: «.. منها ما رووه عن أبي بكر أنه قال على المنبر: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتصم بالوحي، وإن لي شيطاناً يعتريني، فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوموني. وكيف يجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه، مع أن الرعية تحتاج إليه؟!».

والجواب أن يقال: هذا الحديث من أكبر فضائل الصديق – رضي الله عنه – وأدلها على أنه لم يكن [يريد علواً في الأرض ولا فساداً، فلم يكن] طالب رياسة، ولا كان ظالماً، وإنه إنما كان يأمر الناس بطاعة الله ورسوله، فقال لهم: إن استقمت على طاعة الله فأعينوني عليها، وإن زغت عنها فقوّموني. كما قال أيضاً: [أيها الناس] أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.

والشيطان الذي يعتريه يعتري جميع بني آدم؛ فإنه ما من أحد إلا [وقد] وكَّل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن.

والشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من أحد إلا وقد وكَّل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن». قيل: وأنت يا رسول الله؟ قال: «وأنا، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير».

وفي الصحيح عنه قال: لما مرّ به بعض الأنصار وهو يتحدث مع صفية ليلاً، قال: «على رسلكما، إنها صفية [بنت حيي]». ثم قال: «إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شيئاً؛ إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم».

ومقصود الصديق بذلك: إني لست معصوماً كالرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا حق.

وقول القائل: كيف تجوز إمامة من يستعين على تقويمه بالرعية؟ كلام جاهل بحقيقة الإمامة. فإن الإمام ليس هو ربًّا لرعيته حتى يستغني عنهم، ولا هو رسول الله إليهم حتى يكون هو الواسطة بينهم وبين الله. وإنما هو والرعية شركاء يتعاونون هم وهو على مصلحة الدين والدنيا؛ فلا بد له من إعانتهم، ولا بد لهم من إعانته، كأمير القافلة الذي يسير بهم في الطريق: إن سلك بهم الطريق اتّبعوه، وإن أخطأ عن الطريق نبّهوه وأرشدوه، وإن خرج عليهم صائل يصول عليهم تعاون هو وهم على دفعه. لكن إذا كان أكملهم علماً وقدرة ورحمة كان ذلك أصلح لأحوالهم.

وكذلك إمام الصلاة إن استقام صلُّوا بصلاته، وإن سها سبَّحوا به فقوَّموه إذا زاغ.

وكذلك دليل الحاج إن مشى بهم في الطريق مشوا خلفه، وإن غلط قوَّموه.

والناس بعد الرسول لا يتعلمون الدين من الإمام، بل الأئمة والأمة كلهم يتعلمون الدين من الكتاب والسنة.

ولهذا لم يأمر الله عند التنازع برد الأمر إلى الأئمة، بل قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ{ الآية. [سورة النساء: 59]؛ فأمر بالرد عند التنازع إلى الله والرسول لا إلى الأئمة وولاة الأمور، وإنما أمر بطاعة ولاة الأمور تبعاً لطاعة الرسول.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف». وقال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». وقال: «من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه».

وقول القائل: كيف تجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه، مع أن الرعية تحتاج إليه؟

وارد في كل متعاونَيْن ومتشاركَيْن يحتاج كل منهما إلى الآخر، حتى الشركاء في التجارات والصناعات. وإمام الصلاة هو بهذه المنزلة؛ فإن المأمومين يحتاجون إليه، وهو يحمل عنهم السهو وكذلك القراءة عند الجمهور، وهو يستعين بهم إذا سها فينبهونه على سهوه ويقوّمونه، ولو زاغ في الصلاة فخرج عن الصلاة الشرعية لم يتَّبعوه فيها. ونظائره متعددة.

ثم يُقال: استعانة عليٍّ برعيته وحاجته إليهم كانت أكثر من استعانة أبي بكر، وكان تقويم أبي بكر لرعيته وطاعتهم له أعظم من تقويم عليّ لرعيته وطاعتهم له. فإن أبا بكر كانوا إذا نازعوه أقام عليهم الحجة حتى يرجعوا إليه، كما أقام الحجة على عمر في قتال مانعي الزكاة وغير ذلك، وكانوا إذا أمرهم أطاعوه. وعليّ – رضي الله عنه – لما ذكر قوله في أمهات الأولاد وأنه اتفق رأيه ورأي عمر على أن لا يُبعن، ثم رأى أن يُبعن، فقال له قاضيه عبيدة السلماني: رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة.

وكان يقول: اقضوا كما كنتم تقضون؛ فإني أكره الخلاف، حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي.

وكانت رعيته كثيرة المعصية له، وكانوا يشيرون عليه بالرأي الذي يخالفهم فيه، ثم يتبين له أن الصواب كان معهم. كما أشار عليه الحسن بأمور، مثل أن لا يخرج من المدينة دون المبايعة، وأن لا يخرج إلى الكوفة، وأن لا يقاتل بصفِّين، وأشار عليه أن لا يعزل معاوية، وغير ذلك من الأمور.

وفي الجملة فلا يشك عاقل أن السياسة انتظمت لأبي بكر وعمر وعثمان ما لم تنتظم لعليّ – رضي الله عنهم -، فإن كان هذا لكمال المتولِّي وكمال الرعية، كانوا هم ورعيتهم أفضل. وإن كان لكمال المتولِّي وحده، فهو أبلغ في فضلهم. وإن كان ذلك لفرط نقص رعية عليٍّ، كان رعية عليّ أنقص من رعية أبي بكر – رضي الله عنه – وعمر وعثمان.

ورعيته هم الذين قاتلوا معه، وأقرُّوا بإمامته، ورعية الثلاثة كانوا مقرِّين بإمامتهم. فإذا كان المقرّون بإمامة الثلاثة أفضل من المقرّين بإمامة عليّ، لزم أن يكون كل واحد من الثلاثة أفضل منه.

وأيضاً فقد انتظمت السياسة لمعاوية ما لم تنتظم لعليّ، فيلزم أن تكون رعية معاوية خيراً من رعية عليّ، ورعية معاوية شيعة عثمان، وفيهم النواصب المبغضون لعليّ، فتكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة عليّ، فيلزم على كل تقدير: إما أن يكون الثلاثة أفضل من عليّ، وإما أن تكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة عليّ والروافض.

وأيهما كان لزم فساد مذهب الرافضة؛ فإنهم يدَّعون أن عليًّا أكمل من الثلاثة، وأن شيعته الذين قاتلوا معه أفضل من الذين بايعوا الثلاثة، فضلاً عن أصحاب معاوية.

والمعلوم باتفاق الناس أن الأمر انتظم للثلاثة ولمعاوية ما لم ينتظم لعليّ. فكيف يكون الإمام الكامل والرعية الكاملة – على رأيهم – أعظم اضطراباً وأقل انتظاماً من الإمام الناقص والرعية الناقصة؟ بل من الكافرة والفاسقة على رأيهم؟

ولم يكن في أصحاب عليّ من العلم والدين والشجاعة والكرم، إلا ما هو دون ما في رعية الثلاثة، فلم يكونوا أصلح في الدنيا ولا في الدين، ومع هذا فلم يكن للشيعة إمام ذو سلطان معصوم بزعمهم أعظم من عليّ، فإذا لم يستقيموا معه كانوا أن لا يستقيموا مع من هو دونه أَوْلى وأحرى، فعُلم أنهم شر وأنقص من غيرهم.

وهم يقولون: المعصوم إنما وجبت عصمته لما في ذلك من اللطف بالمكلَّفين والمصلحة لهم، فإذا عُلم أن مصلحة غير الشيعة في كل زمان خير من مصلحة الشيعة، واللطف لهم أعظم من اللطف للشيعة، عُلم أن ما ذكروه من إثبات العصمة باطل.

وتبيَّن حينئذ حاجة الأئمة إلى الأمة، وأن الصديق هو الذي قال الحق وأقام العدل أكثر من غيره.

فصل

قال الرافضي: «وقال: أقيلوني فلست بخيركم، وعليٌّ فيكم. فإن كانت إمامته حقًّا كانت استقالته منها معصية، وإن كانت باطلة لزم الطعن».

والجواب: أن هذا كذب، ليس في شيء من كتب الحديث، ولا له إسناد معلوم. فإنه لم يقل: «وعليٌّ فيكم» بل الذي ثبت عنه في الصحيح أنه قال يوم السقيفة: بايعوا أحد هذين الرجلين: عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح. فقال له عمر: بل أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عمر: كنت والله لأن أُقدَّم فتُضرب عنقي، لا يقرّبني ذلك إلى إثم، أحب إليّ من تأمُّري على قوم فيهم أبا بكر.

ثم لو قال: «وعليٌّ فيكم» لاستخلفه مكان عمر؛ فإن أمره كان مطاعاً.

وأما قوله: «إن كانت إمامته حقًّا كانت استقالته منها معصية».

فيقال: إن ثبت أنه قال ذلك، فإن كونها حقًّا إما بمعنى كونها جائزة، والجائز يجوز تركه. وإما بمعنى كونها واجبة إذا لم يولّوا غيره ولم يقيلوه. وأما إذا أقالوه وولُّوا غيره لم تكن واجبة عليه.

والإنسان قد يعقد بيعاً أو إجارة، ويكون العقد حقًّا، ثم يطلب الإقالة، وهو لتواضعه وثقل الحمل عليه قد يطلب الإقالة، وإن لم يكن هناك من هو أحق بها منه. وتواضع الإنسان لا يسقط حقه.

فصل

قال الرافضي: «وقال عمر: كانت بيعة أبي بكر فَلْتة وقى الله المسلمين شرّها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه. ولو كانت إمامته صحيحة لم يستحق فاعلها القتل، فيلزم تطرق الطعن إلى عُمر. وإن كانت باطلة، لزم الطعن عليهما معًا».

والجواب: أن لفظ الحديث سيأتي. قال فيه: «فلا يغترن امرؤ أن يقول: «إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت. ألا وإنّها قد كانت كذلك، ولكن وقى اللهُ شرَّها، وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر». ومعناه أن أبي بكر بودر إليها من غير تريث ولا انتظار، لكونه كان متعيّناً لهذا الأمر. كما قال عمر: «ليس فيكم من تُقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر».

وكان ظهور فضيلة أبي بكر على من سواه، وتقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم له على سائر الصحابة أمراً ظاهراً معلوماً. فكانت دلالة النصوص على تعيينه تُغني عن مشاورة وانتظار وتريث، بخلاف غيره؛ فإنه لا تجوز مبايعته إلا بعد المشاورة والانتظار والتريث، فمن بايع غير أبي بكر عن غير انتظار وتشاور لم يكن له ذلك.

وهذا قد جاء مفسَّراً في حديث عمر هذا في خطبته المشهورة الثابتة في الصحيح، التي خطب بها مرجعه من الحج في آخر عمره. وهذه الخطبة معروفة عند أهل العلم، وقد رواها البخاري في صحيحه عن ابن عباس، قال: «كنت أقرئ رجالاً من المهاجرين: منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى، وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجّها، إذ رجع إليَّ عبد الرحمن بن عوف، فقال: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم، فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت؟ فغضب عمر ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم. فقال عبد الرحمن: فقتل: يا أمير المؤمنين! لا تفعل؛ فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، وإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرّها عنك كل مطيِّر، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة، فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول مقالتك متمكناً، فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها. فقال عمر: أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة. قال ابن عباس: فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة، فلما كان يوم الجمعة عجّلت بالرواح حين زاغت الشمس، حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسًا إلى ركن المنبر، فجلست حوله تمس ركبتي ركبته، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب، فلما رأيته مقبلاً قلت لسعيد بن زيد [بن عمرو بن نفيل]: ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف. فأنكر عليَّ، وقال: ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله؟ فجلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أمّا بعد، فإني قائل لكم مقالة قد قُدِّر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يَدَيْ أجلي، فمن عقلها ووعاها فليحدِّث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحلّ لأحد أن يكذب عليّ. إن الله بعث محمّداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها. رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده. فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: [والله] ما ندد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله. والرجم في كتاب الله حق على من زنى [إذا أُحصن] من الرجال والنساء إذا قامت البينة، أو كان الحَبَل أو الاعتراف. ثم إنّا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله: [أن] لا ترغبوا عن آبائكم؛ فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم. ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، وقولوا: عبد الله ورسوله». ثم إنه بلغني أن قائلاً منكم يقول: والله! لو مات عمر لبايعت فلاناً، فلا يغترن امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وَقَى شرَّها، وليس فيكم من تُقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر. من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرَّة أن يقتلا، وإنه قد كان من خبرنا حين توفّى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنا عليٌّ والزبير ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر. فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار. فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان، فذكرا ما تمالأ عليه القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار. فقالا: لا عليكم أن [لا] تقربوهم. اقضوا أمركم. فقلت: والله لنأتينَّهم. فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة. فإذا رجل مزَمَّل بين ظهرانيهم. فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا سعد بن عبادة. فقلت: ما له؟ قالوا: يوعك. فلما جلسنا قليلاً تشهّد خطيبهم، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أمّا بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط. وقد دفّت دافّة من قومكم، [فإذا هم] يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر، فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت زوّرت مقالة أعجبتني أريد أن أقدّمها بين يّدّيْ أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحدّ، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رِسْلِك، فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلم مني وأوقر. والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها، حتى سَكَت. فقال: ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحيّ من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً. وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم. فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، وهو جالس بيننا. فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أُقَدَّم فتُضرب عنقي لا يقرِّبني ذلك من إثم أحب إليَّ من أن أتأمَّر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلاّ أن تسوِّل لي نفسي عند الموت شيئاّ لا أجده الآن. فقال قائل من الأنصار: أنا جُذَيْلها المُحَكَّك وعُذَيْقها المرجَّب. منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش. فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتى فَرِقْتُ من الاختلاف. فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر. فبسط يده، فبايعته، وبايعه المهاجرون، ثم بايعته الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل [منهم]: قتلتم سعد بن عبادة. فقلت: قتل الله سعد بن عبادة. قال عمر: وإنَّا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر؛ خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعةً، أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا، فإما بايعناهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرّه أن يفتلا». قال مالك: وأخبرني ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن الرجلين اللذين لقياهما: عويمر بن ساعدة ومعن بن عديّ – وهما ممن شهد بدراً – قال ابن شهاب: وأخبرني سعيد بن المسيب: أن الذي قال: أنا جذيلها المحكك وعُذيقها المرجَّب: الحُبَابُ بن المنذر.

وفي صحيح البخاري عن عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسُّنْح، فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وقال عمر: والله ما كان يقع في قلبي إلا ذاك – وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم. فجاء أبو بكر = رضي الله عنه – فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [فقبّله]، فقال: بأبي وأمي، طبت حيًّا وميتاً، والذي نفسي بيده: لا يذيقك الله الموتتين أبدًا، ثم خرج فقال: أيها الحالف على رِسْلِك. فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه، وقال: ألا من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت. وقال الله تعالى: }إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ{ [سورة الزمر: 30]، وقال: }وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ{[سورة آل عمران: 144] قال: فنشج الناس يبكون، واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عُبادة في سقيفة بني ساعدة. فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجرّاح، فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني هيّأت كلاماً قد أعجبني، خشيت أن لا يّبْلُغُه أبو بكر، ثم تكلم أبو بكر، فتكلم أبلغ الناس، فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء. فقال حُباب بن المنذر: لا والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير. فقال أبو بكر: لا، ولكنّا الأمراء وأنتم الوزراء. هم أوسط العرب داراً، وأعربهم أحساباً، فبايعُوا عمر أو أبا عبيدة بن الجراح. فقال عمر: بل نبايعك أنت، فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عمر بيده فبايعه، وبايعه الناس. فقال قائل: قتلتم سعد بن عبادة. فقال عمر: قتله الله».

وفي صحيح البخاري عن عائشة في هذه القصة قالت: «ما كان من خطبتهما من خطبة إلاَّ نفع الله بها، لقد خوَّف عمر الناس وإن فيهم لنفاقاً، فردّهم الله بذلك، ثم لقد بصَّر أبو بكر الناس الهُدَى، وعرَّفهم الحق الذي عليهم».

وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك: أنه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر، وذلك الغد من يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتشهَّد وأبو بكر صامت لا يتكلم، قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يَدْبُرَنَا، يريد بذلك أن يكون أخرهم؛ فإن يكن محمد قد مات فإن الله قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به، به هدى الله محمداً، وإن أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين، وإنه أَوْلى المسلمين بأموركم، فقوموا فبايِعُوه. وكانت طائفة منهم قد بايعوه قيل ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكانت بيعة العامة على المنبر».

وعنه: «قال سمعت عمر يقول لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد [المنبر]، فبايعه الناس عامة».

وفي طريق أخرى لهذه الخطبة: «أما بعد فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله، فخذوا به تهتدوا، لما هدى الله به رسوله صلى الله عليه وسلم».



فصل

قال الرافضي: "وقال أبو بكر عند موته: ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل للأنصار في هذا الأمر حق؛ وهذا يدل على أنه في شكٍ من إمامته ولم تقع صواباً».

والجواب: أن هذا كذب على أبي بكر – رضي الله عنه -، وهو لم يذكر له إسناداً. ومعلوم أن من احتج في أي مسألة كانت بشيء من النقل، فلا بد أن يذكر إسناداً تقوم به الحجة. فكيف بمن يطعن في السابقين الأوَّلين بمجرد حكاية لا إسناد لها؟

ثم يقال: هذا يقدح فيما تدّعونه من النص على عليٍّ؛ فإنه لو كان قد نصّ على عليّ لم يكن للأنصار فيه حق، ولم يكن في ذلك شك.

فصل

قال الرافضي: «وقال عند احتضاره: ليت أمي لم تلدني! يا ليتني كنت تبنة في لبنة. مع أنهم [قد] نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من محتضر يحتضر إلا ويرى مقعده من الجنة والنار».

والجواب: أن تكلّمه بهذا عند الموت غير معروف، بل هو باطل بلا ريب. بل الثابت عنه أنه لم احتُضر، وتمثلت عنده عائشة بقول الشاعر:-

لعُمرك ما يغني الثراءُ عن الفتى
إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدرُ


فكشف عن وجهه، وقال: ليس كذلك، ولكن قولي: }وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ{ [سورة ق: 19].

ولكن نقل عنه أنه قال في صحته: ليت أمي لم تلدني! ونحو هذا قاله خوفاً – إن صح النقل عنه. ومثل هذا الكلام منقول عن جماعة أنهم قالوه خوفاً وهيبة من أهوال يوم القيامة، حتى قال بعضهم: لو خُيِّرت بين أن أحاسب وأدخل الجنة، وبين أن أصير تراباً، لاخترت أن أصير تراباً. وروى الإمام أحمد عن أبي ذر أنه قال: والله لوددت أني شجرة يعضد. وقد روى أبو نُعيم في «حلية الأولياء» قال: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن علي الصائغ، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا أبو معاوية، حدثنا السرى بن يحيى. قال: قال عبد الله بن مسعود: «لو وقفت بين الجنة والنار، فقيل لي: اختر في أيهما تكون، أو تكون رماداً؛ لاخترت أن أكون رماداً».

وروى الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا يحيى بن سعيد، عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق. قال: قال رجل عند عبد الله بن مسعود: ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين، أكون من المقرَّبين أحبُّ إلىّ. فقال عبد الله بن مسعود: لكن ها هنا رجل ودَّ أنه إذا مات لم يُبعث، يعني نفسه.

والكلام في مثل هذا: هل هو مشروع أم لا؟ له موضع آخر. لكن الكلام الصادر عن خوف العبد من الله يدل على إيمانه بالله، وقد غفر الله لمن خافه حين أمر أهله بتحريقه وتذرية نصفه في البر ونصفه في البحر، مع أنه لم يعمل خيراً قط. وقال: والله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً لا يعذّبه أحداً من العالمين. فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه. وقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: من خشيتك يا رب، فغفر له. أخرجاه في الصحيحين.

فإذا كان مع شكه في القدرة والمعاد، إذا فعل ذلك غُفر له بخوفه من الله، عُلم أن الخوف من الله من أعظم أسباب المغفرة للأمور الحقيقية، إذا قُدِّر أنها ذنوب.

فصل

قال الرافضي: «وقال أبو بكر: ليتني في ظلة بني ساعدة ضربت بيدي على يد أحد الرجلين، فكان هو الأمير وكنت الوزير». قال: «وهو يدل على أنه لم يكن صالحاً يرتضي لنفسه الإمامة».

والجواب: أن هذا إن كان قاله فهو أدلّ دليل على أن عليًّا لم يكن هو الإمام؛ وذلك أن قائل هذا إنما يقوله خوفاً من الله أن يضيع حق الولاية، وأنه وَلَّى غيرَه، وكان وزيراً له، كان أبرأ لذمته. فلو كان عليّ هو الإمام، لكانت توليته لأحد الرجلين إضاعة للإمامة أيضًا، وكان يكون وزيراً لظالم غيره، وكان قد باع آخرته بدنيا غيره. وهذا لا يفعله من يخاف الله، ويطلب براءة ذمته.

وهذا كما لو كان الميت قد وصَّى بديون، فاعتقد الوارث أن المستحقّ لها شخص، فأرسلها إليه مع رسوله، ثم قال: يا ليتني أرسلتها مع من هو أَدْيَنُ منه؛ خوفاً أن يكون الرسول الأول مقصِّرًا في الوفاء، تفريطاً أو خيانة. وهناك شخص حاضر يدَّعي أنه المستحق للدَّيْن دون ذلك الغائب، فلو علم الوارث أنه المستحق، لكان يعطيه ولا يحتاج إلى الإرسال به إلى ذلك الغائب.

فصل

قال الرافضي: «وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته، مرة بعد أخرى، مكرراً لذلك: أنفذوا جيش أسامة، لعن الله المتخلف عن جيش أسامة. وكان الثلاثة معه، ومنع أبو بكر عمر من ذلك».

والجواب: أن هذامن الكذب المتفق على أنه كذب عند كل من يعرف السيرة، ولم ينقل أحد من أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر أو عثمان في جيش أسامة. وإنما رُوي ذلك في عمر، وكيف يرسل أبا بكر في جيش أسامة، وقد استخلفه يصلِّي بالمسلمين مدة مرضه، وكان ابتداء مرضه من يوم الخميس إلى الخميس إلى يوم الاثنين، اثني عشر يومًا، ولم يقدِّم في الصلاة بالمسلمين إلا أبا بكر بالنقل المتواتر، ولم تكن الصلاة التي صلاَّها أبو بكر بالمسلمين في مرض النبي صلى الله عليه وسلم صلاةً ولا صلاتين، ولا صلاة يوم ولا يومين، حتى يُظَنّ ما تدعيه الرافضة من التلبيس، وأن عائشة قدّمته بغير أمره، بل كان يصلِّي بهم مدة مرضه؛ فإن الناس متفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلِ بهم في مرض موته إلا أبو بكر، وعلى أنه صلّى بهم عدة أيام. وأقل ما قيل: إنه صلّى بهم سبع عشرة صلاة؛ صلَّى بهم صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة، وخطب بهم يوم الجمعة. هذا مما تواترت به الأحاديث الصحيحة، ولم يزل يصلّي بهم إلى فجر يوم الاثنين: صلّى بهم صلاة الفجر، وكشف النبي صلّى الله عليه وسلم الستارة، فرآهم يصلّون خلف أبي بكر، فلما رأوه كادوا يفتتنون في صلاتهم، ثُم أرخى الستارة. وكان ذلك آخر عهدهم به، وتوفي يوم الاثنين حين اشتد الضحى قريباً من الزوال.

وقد قيل: إنه صلّى بهم أكثر من ذلك من الجمعة التي قبل؛ فيكون قد صلّى بهم مدة مرضه كلها، لكن خرج النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة واحدة لما وجد خفةً في نفسه، فتقدَّم وجعل أبا بكر عن يمينه، فكان أبو بكر يأتمُّ بالنبي صلى الله عليه وسلم، والناس يأتمُّون بأبي بكر، وقد كَشَف الستارة يوم الاثنين، صلاة الفجر، وهم يصلّون خلف أبي بكر، ووجهه صلى الله عليه وسلم كأنه ورقة مصحف، فَسُرَّ بذلك لمّا رأى اجتماع الناس في الصلاة خلف أبي بكر، ولم يَرَوْه بعدها.

وقد قيل: إن آخر صلاة صلاَّها كانت خلف أبي بكر. وقيل: صلَّى خلفه غيرها.

فكيف يُتصور أن يأمره بالخروج في الغزاة وهو يأمره بالصلاة بالناس؟!

وأيضاً فإنه جهَّز جيش أسامة قبل أن يمرض؛ فإنه أمَّره على جيش عامتهم المهاجرون؛ منهم عمر بن الخطاب في آخر عهده صلى الله عليه وسلم، وكانوا ثلاثة آلاف، وَأَمَرَه أن يغير على أهل مُؤتة، وعلى جانب فلسطين، حيث أصيب أبوه، وجعفر وابن رواحة. فتجهّز أسامة بن زيد للغزو، وخرج في ثقله إلى الجرف، وأقام بها أياماً لشكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة فقال: «اغد على بركة الله والنصر والعافية ثم أَغِر حيث أمرتك أن تغير». قال أسامة: يا رسول الله قد أصبحتَ ضعيفاً، وأرجو أن يكون الله قد عافاك، فَأْذَنْ لي فَأَمْكُث حتى يشفِيَك الله، فإني إن خرجت وأنت على هذه خرجت وفي نفسي منك قرحة، وأكره أن أسأل عنك الناس» فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بأيام، فلما جلس أبو بكر للخلافة أنفذه مع ذلك الجيش، غير أنه استأذنه في أن يأذن لعمر بن الخطاب في الإقامة؛ لأنه ذو رأي ناصح للإسلام، فأَذِن له، وسار أسامة لوجهه الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصاب في ذلك العدو مصيبة عظيمة، وغَنِم هو وأصحابه، وقتل قاتل أبيه، وردّهم الله سالمين إلى المدينة.

وإنما أنفذ جيش أسامة أبو بكر الصدّيق بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: لا أُحِلُّ رايةً عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأشار عليه غير واحد أن يردَّ الجيش خوفاً عليهم؛ فإنهم خافوا أن يطمع الناس في الجيش بموت النبي صلى الله عليه وسلم، فامتنع أبو بكر من ردّ الجيش وأمر بإنفاذه. فلما رآهم الناس يغزون عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم، كان ذلك مما أيَّد الله به الدين، وشدَّ به قلوب المؤمنين، وأذلَّ به الكفار والمنافقين، وكان ذلك من كمال معرفة أبي بكر الصدِّيق وإيمانه ويقينه وتدبيره [ورأيه].

فصل

قال الرافضي: «وأيضاً لم يُوَلِّ النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر البتة عملاً في وقته، بل ولَّى عليه عمرو ابن العاص تارة وأسامة أخرى. ولما أنفذه بسورة «براءة» ردّه بعد ثلاثة أيام بوحي من الله، وكيف يرتضي العاقل إمامة من لا يرتضيه النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من الله لأداء عشر آيات من «براءة؟!».

والجواب: أن هذا من أَبْيَن الكذب؛ فإنه من المعلوم المتواتر عند أهل التفسير والمغازي والسير والحديث والفقه وغيرهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج عام تسع، وهو أول حج كان في الإسلام من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن قبله حج في الإسلام، إلا الحجة التي أقامها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أُمية من مكة؛ فإن مكة فتحت سنة ثمان، وأقام الحج ذلك العام عتاب بن أسيد، الذي استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة، ثم أمّر أبا بكر سنة تسع للحج، بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وفيها أَمَر أبا بكر بالمناداة في الموسم: أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عُريان. ولم يؤمِّر النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر على مثل هذه الولاية؛ فولاية أبي بكر كانت من خصائصه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمِّر على الحج أحداً كتأمير أبي بكر، ولم يستخلف على الصلاة أحداً كاستخلاف أبي بكر، وكان عليٌّ من رعيته في هذه الحجة؛ فإنه لحقه فقال: أمير أو مأمور؟ فقال عليّ: بل مأمور. وكان عليّ يصلي خلف أبي بكر مع سائر المسلمين في هذه الولاية، ويأتمر لأمره كما يأتمر له سائر من معه، ونادى عليٌّ مع الناس في هذه الحجة بأمر أبي بكر.

وأما ولاية غير أبي بكر فكانت مما يشاركه فيها غيره، كولاية عليّ وغيره؛ فلم يكن لعليّ ولاية إلا ولغيره مثلها، بخلاف ولاية أبي بكر، فإنها من خصائصه، ولم يولِّ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر لا أسامة بن زيد ولا عمرو بن العاص.

فأما تأمير أسامة عليه فمن الكذب المتفق على كذبه.

وأما قصة عمرو بن العاص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أرسل عَمْراً في سرية، وهي غزوة ذات السلاسل، وكانت إلى بني عذرة، وهم أخوال عمرو، فأمَّر عمراً ليكون ذلك سبباً لإسلامهم، للقرابة التي له منهم. ثم أردفه بأبي عبيدة، ومعه أبو بكر وعمر وغيرهما من المهاجرين. وقال: «تطاوعا ولا تختلفا» فلما لحق عَمْراً قال: أصلّي بأصحابي وتصلّي بأصحابك. قال: بل أنا أصلّي بكم؛ فإنما أنت مدد لي. فقال له أبو عبيدة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أطاوعك، فإن عصيتني أطعتك. قال: فإني أعصيك. فأراد عمرو أن ينازعه في ذلك، فأشار عليه أبو بكر أن لا يفعل. ورأى أبو بكر أن ذلك أصلح للأمر، فكانوا يصلّون خلف عمرو، مع علم كل أحدٍ أن أبا بكر وعُمَر وأبا عبيدة أفضل من عمرو.

وكان ذلك لفضلهم وصلاحهم؛ لأن عمراً كانت إمارته قد تقدّمت لأجل ما في ذلك من تألّف قومه الذين أُرسل إليهم لكونهم أقاربه. ويجوز تولية المفضول لمصلحة راجحة، كما أُمِّر أسامة بن زيد، ليأخذ بثأر أبيه زيد بن حارثة، لما قُتل في غزوة مؤته. فكيف والنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمِّر على أبي بكر أحداً في شيء من الأمور؟!

بل قد علم بالنقل العام المتواتر أنه لم يكن أحد عنده أقرب إليه ولا أخص به، ولا أكثر اجتماعاً به ليلاً ونهارًا، سرًّا وعلانية، من أبي بكر، ولا كان أحد من الصحابة يتكلم بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم قبله، فيأمر وينهي، ويخطب ويفتي، ويقرُّه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك راضياً بما يفعل.

ولم يكن ذلك تقدماً بين يديه، بل بإذن منه قد عَلِمَه، وكان ذلك معونة للنبي صلى الله عليه وسلم، وتبليغاً عنه، وتنفيذاً لأمره؛ لأنه كان أعلمهم بالرسول وأحبهم إلى الرسول واتبعهم له.

وأما قول الرافضي: إنه لما أنفذه ببراءة ردّه بعد ثلاثة أيام؛ فهذا من الكذب المعلوم أنه كذب. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمَّر أبا بكر على الحج، ذهب كما أمره، وأقام الحج في ذلك العام، عام تسع، للناس، ولم يرجع إلى المدينة حتى قضى الحج، وأنفذ فيه ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن المشركين كانوا يحجون البيت، وكانوا يطوفون بالبيت عراة، وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهود مطلقة، فبعث أبا بكر وأمره أن ينادي: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان. فنادى بذلك من أمره أبو بكر بالنداء ذلك العام، وكان عليّ بن أبي طالب من جملة من نادى بذلك في الموسم بأمر أبي بكر، ولكن لما خرج أبو بكر أردفه النبي صلى الله عليه وسلم بعليّ بن أبي طالب لينبذ إلى المشركين العهود.

قالوا: وكان من عادة العرب أن لا يعقد العهود ولا يفسخها إلا المطاع، أو رجل من أهل بيته، فَبَعث عليًّا لأجل فسخ العهود التي كانت مع المشركين خاصة، لم يبعثه لشيء آخر؛ ولهذا كان عليّ يصلّي خلف أبي بكر، ويدفع بدفعه في الحج، كسائر رعية أبي بكر الذين كانوا معه في الموسم.

وكان هذا بعد غزوة تبوك، واستخلافه له فيها على من تركه بالمدينة، وقوله له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟

ثم بعد هذا أمّر أبا بكر على الموسم، وأردفه بعليّ مأموراً عليه لأبي بكر الصديق – رضي الله عنه. وكان هذا مما دلّ على أن عليُّا لم يكن خليفة له، إلا مدة مغيبه عن المدينة فقط. ثم أمَّر أبا بكر عليه عام تسع. ثم إنه بعد هذا بعث عليًّا وأبا موسى الأشعري ومُعاذًا إلى اليمن، فرجع عليّ وأبو موسى إليه، وهو بمكة في حجة الوداع، وكل منهما قد أهلٌ بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم. فأما معاذ فلم يرجع إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، في خلافة أبي بكر الصدّيق – رضي الله عنه -.

فصل

قال الرافضي: «وقطع يسار سارق، ولم يعلم أن القطع لليد اليمنى».

والجواب: أن قول القائل: إن أبا بكر يجهلُ هذا، من أظهر الكذب. ولو قُدِّر أن أبا بكر كان يجيز ذلك، لكان ذلك قولاً سائغاً؛ لأن القرآن ليس في ظاهره ما يعيِّن اليمين، لكن تعيين اليمين في قراءة ابن مسعود: «فاقطعوا أيمانهما» وبذلك مضت السنة. ولكن أين النقل بذلك عن أبي بكر – رضي الله عنه – أنه قطع اليسرى؟ وأين الإسناد الثابت بذلك؟ وهذه كتب أهل العلم بالآثار موجودة ليس فيها ذلك، ولا نقل أهل العلم بالاختلاف ذلك قولاً، مع تعظيمهم لأبي بكر – رضي الله عنه -.

فصل

قال الرافضي: «وأحرق الفجاءة السلمي بالنار، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحراق بالنار».

الجواب: أن الإحراق بالنار عن عليّ أشهر وأظهر منه عن أبي بكر. [وأنه قد ثبت] في الصحيح أن عليًّا أُتِيَ بقوم زنادقة من غلاة الشيعة، فحرَّقهم بالنار، فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: لو كنت أنا لم أحرّقهم بالنار، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعَذَّب بعذاب الله، ولضربت أعناقهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدَّل دينه فاقتلوه».

فبلغ ذلك عليًّا، فقال: ويح ابن أم الفضل ما أسقطه عَلَى الهنات.

فعليّ حرق جماعة بالنار. فإن كان ما فعله أبو بكر منكراً، ففعل عليّ أنكر منه، وإن كان فعل عليّ مما لا يُنكر مثله على الأئمة، فأبو بكر أَوْلى أن لا يُنكر عليه.



فصل

قال الرافضي: «وخَفِيَ عليه أكثر أحكام الشريعة، فلم يعرف حكم الكلالة، وقال: أقول فيها برأيي، فإن يكُ صواباً فمن الله، وإن يكُ خطأ فمني ومن الشيطان. وقضى في الجد بسبعين قضية. وهو يدل على قصوره في العلم».

والجواب: أن هذا من أعظم البهتان. كيف يخفى عليه أكثر أحكام الشريعة، ولم يكن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من يقضي ويُفتي إلا هو؟! ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مشاورة لأحدٍ من أصحابه منه له ولعمر. ولم يكن أحدٌ أعظم اختصاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم منه ثم عمر.

وقد ذكر غير واحد، مثل منصور بن عبد الجبّار السمعاني وغيره، إجماع أهل العلم على أن الصدِّيق أعلم الأمة. وهذا بيِّنٌ، فإن الأمة لم تختلف في ولايته في مسألة إلا فصَّلها هو بعلم يبيِّنه لهم، وحجة يذكرها لهم من الكتاب والسنة. كما بيَّن لهم موت النبي صلى الله عليه وسلم، وتثبيتهم على الإيمان، وقراءته عليهم الآية، ثم بيَّن لهم موضع دفنه، وبيَّن لهم قتال مانعي الزكاة [لما استراب فيه عمر]، وبيَّن لهم أن الخلافة في قريش في سقيفة بني ساعدة، لمّا ظن من ظن أنها تكون في غير قريش.

وقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على أول حجة حجت من مدينة النبي صلى الله عليه وسلم. وعِلْمُ المناسك أدقّ ما في العبادات، ولولا سعة علمه بها لم يستعمله. وكذلك الصلاة استخلفه فيها، ولولا علمه بها لم يستخلفه. ولم يستخلف غيره لا في حج ولا في صلاة.

وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذه أنس من أبي بكر. وهو أصح ما رُوي فيها، وعليه اعتمد الفقهاء.

وفي الجملة لا يُعرف لأبي بكر مسألة من الشريعة غلط فيها، وقد عُرف لغيره مسائل كثيرة، كما بسط في موضعه.

وقد تنازعت الصحابة بعده في مسائل: مثل الجد والإخوة، ومثل العمريتين، ومثل العَوْل، وغير ذلك من مسائل الفرائض. وتنازعوا في مسألة الحرام، والطلاق الثلاث بكلمة، والخلية، والبرية، والبتّة، وغير ذلك من مسائل الطلاق.

وكذلك تنازعوا في مسائل صارت مسائل نزاع بين الأمة إلى اليوم. وكان تنازعهم في خلافة عمر نزاع اجتهاد محض: كل منهم يقرُّ صاحبه على اجتهاده، كتنازع الفقهاء أهل العلم والدين.

وأما في خلافة عثمان فقوي النزاع في بعض الأمور، حتى صار يحصل كلام غليظ من بعضهم لبعض. ولكن لم يقاتل بعضهم بعضاً باليد ولا بسيف ولا غيره.

وأما في خلافة عليّ فتغلّظ النزاع، حتى تقاتلوا بالسيوف.

وأما في خلافة أبي بكر فلم يُعلم أنه استقر بينهم نزاع في مسألة واحدة من مسائل الدين. وذلك لكمال علم الصدِّيق وعدله ومعرفته بالأدلة التي تزيل النزاع، فلم يكن يقع بينهم نزاع إلا أظهر الصديق من الحجة التي تفصل النزاع ما يزول معها النزاع. وكان عامة الحجج الفاصلة للنزاع يأتي بها الصدِّيق ابتداءً، وقليل من ذلك يقوله عمر أو غيره، فيقرُّه أبو بكر الصديق.

وهذا مما يدلّ على أن الصديق ورعيته أفضل من عمر ورعيته، وعثمان ورعيته، وعليّ ورعيته؛ فإن أبا بكر ورعيته أفضل الأئمة والأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم الأقوال التي خُولف فيها الصدِّيق بعد موته، قوله فيها أرجح من قول من خالفه بعد موته. وطَرْدُ ذلك الجد والإخوة؛ فإن قول الصدِّيق وجمهور الصحابة وأكابرهم أنّه يُسقط الإخوة، وهو قول طوائف من العلماء، وهو مذهب أبي حنيفة، وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، كأبي العباس بن سُرَيْج من الشافعية، وأبي حفص البرمكي من الحنابلة، ويُذكر ذلك رواية عن أحمد.

والذين قالوا بتوريث الإخوة مع الجد، كعليّ وزيد وابن مسعود، اختلفوا اختلافاً معروفاً، وكل منهم قال قولاً خالفه فيه الآخر، وانفرد بقوله عن سائر الصحابة. وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع في مصنّف مفرد، وبيّنا أن قول الصدِّيق وجمهور الصحابة هو الصواب، وهو القول الراجح الذي تدلّ عليه الأدلة الشرعية من وجوه كثيرة، [ليس هذا موضع بسطها].

وكذلك ما كان عليه الأمر في زمن صدّيق الأمة – رضي الله عنه – من جواز فسخ الحج إلى العمرة بالتمتع، وأن من طلَّق ثلاثاً بكلمة واحدة لا يلزمه إلا طلقة واحدة هو الراجح، دون من يحرِّم الفسخ ويُلزم بالثلاث؛ فإن الكتاب والسنة إنما يدل على ما كان عليه الأمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر، دون القول المخالف لذلك.

ومما يدل على كمال حال الصدِّيق، وأنه أفضل من كل من وَلِيَ الأمة، بل وممن وَلِيَ غيرها من الأمم بعد الأنبياء، أنه من المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الأوَّلين والآخرين، وأفضل من سائر الخلق من جميع العالمين.

وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبيّ خلفه نبيّ، وإنه لا نبيّ بعدي، وسيكون خلفاء ويكثرون». قالوا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال: «فوا بيعة الأول فالأول».

ومن المعلوم أنَّه من تولَّى بعد الفاضل إذا كان فيه نقص كثير عن سياسة الأول، ظهر ذلك النقص ظهوراً بيّناً. وهذا معلوم من حال الولاة إذا تولّى ملِك بعد ملك، أو قاضٍ بعد قاضٍ بعد قاض، أو شيخ بعد شيخ، أو غير ذلك؛ فإن الثاني إذا كان ناقص الولاية نقصاً بيِّناً ظهر ذلك فيه، وتغيرت الأمور التي كان الأول قد نظَّمها وألّفها. ثم الصدِّيق تولَّى بعد أكمل الخلق سياسة، فلم يظهر في الإسلام نقص بوجه من الوجوه، بل قاتل المرتدّين حتى عاد الأمر إلى ما كان [عليه]، وأدخل الناس في الباب الذي خرجوا منه، ثم شرع في قتال الكفّار من أهل الكتاب، وعلَّم الأمة ما خفِيَ عليهم، وقوّاهم لمّا ضعفوا، وشجّعهم لما جبنوا، وسار فيهم سيرة توجب صلاح دينهم ودنياهم، فأصلح الله بسببه الأمة في علمهم وقدرتهم ودينهم، وكان ذلك مما حفظ الله به على الأمة دينها، وهذا مما يحقق أنه أحقّ الناس بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما قول الرافضي: «لم يعرف حكم الكلالة حتى قال فيها برأيه».

فالجواب: أن هذا من أعظم علمه. فإن هذا الرأي الذي رآه في الكلالة قد اتفق عليه جماهير العلماء بعده؛ فإنهم أخذوا في الكلالة بقول أبي بكر، وهو من لا ولد له ولا واحد، والقول بالرأي هو معروف عن سائر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل، لكن الرأي الموافق للحق هو الذي يكون لصاحبه أجران، كرأي الصدِّيق، فإن هذا خير من الرأي الذي غاية صاحبه أن يكون له أجر واحد.

وقد قال قيس بن عُبَاد لعليّ: أرأيت مسيرك هذا: ألعهد عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم رأي رأيته؟ فقال: بل رأي رأيته. رواه أبي داود وغيره.

فإذا كان مثل هذا الرأي الذي حصله به من سفك الدماء ما حصل، لا يمنع صاحبه أن يكون إماماً، فكيف بذلك الرأي الذي اتفق جماهير العلماء على حسنه.

وأما ما ذكره من قضائه في الجد بسبعين قضية، فهذا كذب. وليس هو قول أبي بكر، ولا نُقل هذا عن [أبي بكر]، بل نَقْلُ هذا عن أبي بكر يدل على غاية جهل هؤلاء الروافض وكذبهم، ولكن نَقَل بعض الناس عن عمر أنه قضى في الجد بسبعين قضية، ومع هذا هو باطل عن عمر؛ فإنه لم يمت في خلافته سبعون جداً كلٌّ منهم كان لابن ابنه إخوة، وكانت تلك الوقائع تحتمل سبعين قولاً مختلفة، بل هذا الاختلاف لا يحتمله كل جد في العالم، فعُلم أن هذا كذب.

وأما مذهب أبي بكر في الجد؛ فإنه جعله أبُّا، وهو قول بضعة عشر من الصحابة، وهو مذهب كثير من الفقهاء [كأبي حنيفة وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، كأبي حفص البرمكي، ويُذكر رواية عن أحمد] كما تقدم، وهو أظهر القولين في الدليل.

ولهذا يُقال: لا يُعرف لأبي بكر خطأ في الفُتيا، بخلاف غيره من الصحابة؛ فإن قوله في الجد أظهر القولين. والذين ورَّثوا الإخوة مع الجد، وهم عليّ وزيد وابن مسعود وعمر، في إحدى الروايتين عنه، تفرَّقوا في ذلك. وجمهور الفقهاء على قول زيد، وهو قول مالك والشافعي وأحمد، فالفُقَهَاءُ في الجَدِّ: إما على قول أبي بكر، وإما على قول زيد الذي أمضاه عمر. ولم يذهب أحد من أئمة الفُتيا إلى قول عليّ في الجد. وذلك مما يبين أن الحق لا يخرج عن أبي بكر وعمر؛ فإن زيداً قاضِى عمر، مع أن قول أبي بكر أرجح من قول زيد.

وعمر كان متوقفاً في الجد، وقال: «ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّنهنَّ لنا: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا».

وذلك لأن الله تعالى سمَّى الجد أبًّا في غير موضع من كتابه، كما قال تعالى: )أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ{ [سورة الأعراف: 27]، وقوله: )مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ( [سورة الحج: 78]. وقد قال: )يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ{، )يَا بَنِي آدَمَ( في غير موضع.

وإذا كان ابن الابن ابناً، كان أبو الأب أبًّا، ولأن الجدّ يقوم مَقَام الأَبِ في غير مورد النزاع، فإنه يسقط ولد الأم كالأب، ويقدّم على جميع العصبات سوى البنين كالأب، ويأخذ مع الولد السدس كالأب، ويُجمع له بين الفرض والتعصيب مع البنات كالأب.

وأمَّا في العُمَرِيَّتَين زوج وأبوين، وزوجة وأبوين؛ فإن الأم تأخذ الثلث الباقي، والباقي للأب، ولو كان معها جد لأخذت الثلث كله عند جمهور الصحابة والعلماء، إلا ابن مسعود لأن الأم أقرب من الجد، وإنما الجدّة نظير الجد، والأم تأخذ مع الأب الثلث، والجدّة لا تأخذ مع الجد إلا السدس، وهذا مما يقوى به الجد، ولأن الإخوة مع الجد الأدنى، كالأعمام مع الجد الأعلى.

وقد اتفق المسلمون على أن الجد الأعلى يقدّم على الأعمام، فكذلك الجد الأدنى يقدم على الإخوة، لأن نسبة الإخوة إلى الجد الأدنى، كنسبة الأعمام إلى الجد الأعلى، ولأن الإخوة لو كانوا لكونهم بني الأب يشاركون الجد، لكان بنو الإخوة كذلك، كما يقوم بنو البنين مقام آبائهم. ولما كان بنو الإخوة لا يشاركون الجد، كان آباؤهم الإخوة كذلك، وعكسه البنون: لما كان الجد يفرض له مع البنين، فُرض له مع بني البنين.

وأما الحجة التي تُورى عن عليٍّ وزيد في أن الإخوة يشاركون الجد، حيث شبَّهوا ذلك بأصل شجرة خرج منها فرع، خرج منه غصنان، فأحد الغصنين أقرب إلى الآخر منه إلى الأصل، وبنهرٍ خرج منه نهر آخر، ومنه جدولان، فأحدهما إلى الآخر أقرب من الجدول إلى النهر الأول.

فمضمون هذه الحجة أن الإخوة أقرب إلى الميت من الجد.

ومن تدبّر أصول الشريعة علم أن حجة أبي بكر وجمهور الصحابة لا تعارضها هذه الحجة؛ فإن هذه لو كانت صحيحة لكان بنو الأخ أَوْلى من الجد، ولكان العم أَوْلى من جد الأب. فإن نسبة الإخوة من الأب إلى الجد أبي الأب، كنسبة الأعمام بني الجد إلى الجد الأعلى جد الأب فلما أجمع المسلمون على أن الجد الأعلى أَوْلى من الأعمام، كان الجد الأدنى أَوْلى من الإخوة.

وهذه حجة مستقلة تقتضي ترجيح الجد على الإخوة.

وأيضاً فالقائلون بمشاركة الإخوة للجد لهم أقوال متعارضة متناقضة، لا دليل على شيء منها، كما يَعْرف ذلك من يعرف الفرائض، فعُلم أن قول أبي بكر في الجد أصح الأقوال، كما أن قوله دائماً أصح الأقوال.

فصل

قال الرافضي: «فأي نسبة له بمن قال: سًلُوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن طرق السماء فإني أعرف بها من طرق الأرض، قال أبو البحتري: رأيت عليًّا صعد المنبر بالكوفة وعليه مدرعة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، متقلدًا بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، متعمماً بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي إصبعه خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد على المنبر، وكشف عن بطنه، فقال: سلوني [من] قبل أن تفقدوني، فإنما بين الجوانح مني علم جم، هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا ما زقَّني رسول الله صلى الله عليه وسلم زقًّا من غير وحيٍ إليّ، فوالله! لو ثُنيت لي وسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم، وأهل الإنجيل بإنجيلهم، حتى يُنطق الله التوراة والإنجيل فتقول: صدق عليّ، قد أفتاكم بما أنزل الله فيَّ، وأنتم تتلون الكتاب، أفلا تعقلون».

والجواب: أما قول عليّ: «سلوني» فإنما كان يخاطب بهذا أهل الكوفة ليعلّمهم العلم والدين؛ فإن غالبهم كانوا جُهَّالاًً لم يدركوا النبي صلى الله عليه وسلم. وأما أبو بكر فكان الذين حول منبره هم أكابر أصاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين تعلّموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم والدين، فكانت رعية أبي بكر أعلم الأمة وأَدْيَنها. وأما الذين كان عليّ يخاطبهم فهم من جملة عوام الناس التابعين، وكان كثير منهم من شرار التابعين. ولهذا كان عليّ – رضي الله عنه – يذمّهم ويدعو عليهم، وكان التابعون بمكة والمدينة والشام والبصرة خيرًا منهم.

وقد جمع الناس الأقضية والفتاوى المنقولة عن أبي بكر وعمر وعثمان ولهذا كان ما يوجد من الأمور التي وُجد نصٌّ يخالفها عن عمر أقل مما وُجد عن علي، وأما أبو بكر فلا يكاد يوجد نص يخالفه، وكان هو الذي يفصل الأمور المشتبهة عليهم، ولم يكن يُعرف منهم اختلاف على عهده. وعامة ما تنازعوا فيه من الأحكام كان بعد أبي بكر.

والحديث المذكور عن علي كذب ظاهر لا تجوز نسبه مثله إلى علي؛ فإن علياً أعلم بالله وبدين الله من أن يحكم بالتوراة والإنجيل، إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لمسلم أن يحكم بين أحد إلا بما أنزل الله في القرآن. وإذا تحاكم اليهود والنصارى إلى المسلمين لم يجز لهم أن يحكموا بينهم إلا بما أنزل الله في القرآن، كما قال تعالى: )ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك( إلى قوله: )فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين( إلى قوله: )فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدةً ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً( إلى قوله: )وأن احكم بينهم بما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون(.

وإذا كان من المعلوم بالكتاب والسنة والإجماع، أن الحاكم بين اليهود والنصارى لا يجوز أن يحكم بينهم إلا بما أنزل الله على محمد، سواء وافق ما بأيديهم من التوراة والإنجيل أو لم يوافقه، كان من نسب علياً إلى أنه يحكم بالتوراة والإنجيل بين اليهود والنصارى، أو يفتيهم بذلك، ويمدحه بذلك: إما أن يكون من أجهل الناس بالدين، وبما يُمدح به صاحبه وإما أن يكون زنديقاً ملحداً أراد القدح في علي بمثل هذا الكلام الذي يستحق صاحبه الذم والعقاب، دون المدح والثواب.



(فصل)

قال الرافضي: "وروى البيهقي بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في تقواه وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى علي بي أبي طالب، فأثبت له ما تفرَّق فيهم".

والجواب : أن يقال: أولاً: أين إسناد هذا الحديث؟ والبيهقي يروى في الفضائل أحاديث كثيرة ضعيفة، بل موضوعة، كما جرت عادة أمثاله من أهل العلم.

ويقال: ثانياً: هذا الحديث كذب موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا ريب عند أهل العلم بالحديث، ولهذا لا يذكره أهل العلم بالحديث، وإن كانوا حراصاً على جمع فضائل علي، كالنسائي؛ فإنه قصد أن يجمع فضائل علي في كتاب سماه "الخصائص"، والترمذي قد ذكر أحاديث متعددة في فضائله، وفيها ما هو ضعيف بل موضوع، ومع هذا لم يذكروا هذا ونحوه.



(فصل)

قال الرافضي: "قال أبو عمر الزاهد: قال أبو العباس: لا نعلم أحداً قال بعد نبيه: "سلوني" من شيث إلى محمدٍ إلا علي، فسأله الأكابر: أبو بكر وعمر وأشباههما، حتى انقطع السؤال. ثم قال بعد هذا: يا كُمَيْل ابن زياد، إن ههنا لعلم جما لو أصبت له حملة".

والجواب: أن هذا النقل إن صح عن ثعلب؛ فثعلب لم يذكر له إسناداً حتى يُحتج به. وليس ثعلب من أئمة الحديث الذين يعرفون صحيحه من سقيمه، حتى يُقال: قد صح عنده. كما إذا قال ذلك أحمد أو يحيى ابن معين أو البخاري ونحوهم. بل من هو أعلم من ثعلب من الفقهاء يذكرون أحاديث كثيرة لا أصل لها، فكيف ثعلب؟! وهو قد سمع هذا من بعض الناس الذين لا يذكرون ما يقولون عن أحد.

وعلى رضي الله عنه لم يكن يقول هذا بالمدينة، لا في خلافة أبي بكر ولا عمر ولا عثمان، وإنما كان يقول هذا في خلافته في الكوفة، ليعلم أولئك الذين لم يكونوا يعلمون ما ينبغي لهم علمه. وكان هذا لتقصيرهم في طلب العلم، وكان علي رضي الله عنه يأمرهم بطلب العلم والسؤال .

وحديث كميل بن زياد يدل على هذا؛ فإن كميلاً من النابعين لم يصحبه إلا بالكوفة، فدل على أنه كان يرى تقصيراً من أولئك عن كونهم حملة للعلم، ولم يكن يقول هذا في المهاجرين والأنصار، بل كان عظيم الثناء عليهم.

وأما أبو بكر فلم يسأل علياً قط عن شيء. وأما عمر فكان يشاور الصحابة: عثمان وعلياً وعبدالرحمن وابن مسعود وزيد بن ثابت وغيرهم. فكان علي من أهل الشورى، كعثمان وابن مسعود وغيرهما، ولم يكن أبو بكر ولا عمر ولا غيرهما من أكابر الصحابة يخصان علياً بسؤال ، والمعروف أن علياً أخذ العلم عن أبي بكر، كما في السنن عن علي، قال: كنت إذا سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً نفعني الله به ما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني غيره حديثاً استحلفته، فإذا حلف لي صدقته. وحدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر، قال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد مؤمن يذنب ذنباً فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي، ثم يستغفر الله إلا غفر الله له".

(فصل)

قال الرافضي: "وأهمل حدود الله فلم يقتص من خالد بن الوليد ولا حدَّه حيث قتل مالك بن نويرة، وكان مسلماً، وتزوج امرأته في ليلة قتله وضاجعها. وأشار عليه عمر بقتله فلم يفعل".

والجواب: أن يقال: أولاً: إن كان ترك قتل قاتل المعصوم مما يُنكر على الأئمة، كان هذا من أعظم حجة شيعة عثمان على علي؛ فإن عثمان خير من ملء الأرض من مثل مالك بن نويرة، وهو خليفة المسلمين، وقد قُتل مظلوماً شهيداً بلا تأويل مسوِّغ لقتله. وعلي لم يقتل قتلته، وكان هذا من أعظم ما امتنعت به شيعة عثمان عن مبايعة علي، فإن كان علي له عذر شرعي في ترك قتل قتلة عثمان، فعذر أبي بكر في ترك قتل قاتل مالك بن نويرة أقوى، وإن لم يكن لأبي بكر عذر في ذلك فعلي أولى أن لا يكون له عذر في ترك قتل قتلة عثمان.

وأما ما تفعله الرافضة من الإنكار على أبي بكر في هذه القضية الصغيرة، وترك إنكار ما هو أعظم منها على علي، فهذا من فرط جهلهم وتناقضهم.

وكذلك إنكارهم على عثمان كونه لم يقتل عُبيد الله بن عمر بالهرمزان، هو من هذا الباب.

وإذا قال القائل: علي كان معذوراً في ترك قتل قتلة عثمان، لأن شروط الاستيفاء لم توجد: إما لعدم العلم بأعيان القتلة، وإما لعجزه عن القوم لكونهم ذوي شوكة، ونحو ذلك.

قيل" فشروط الاستيفاء لم توجد في قتل قاتل مالك بن نويرة، وقتل قاتل الهرمزان، لوجود الشبهة في ذلك. والحدود تدرأ بالشبهات.

وإذا قالوا: عمر أشار على أبي بكر بقتل خالد بن الوليد، وعلي أشار على عثمان بقتل عبيد الله بن عمر.

قيل: وطلحة والزبير وغيرهما أشاروا على علي بقتل قتلة عثمان، مع أن الذين أشاروا على أبي بكر بالقود، أقام عليهم حجة سلّموا لها: إما لظهور الحق معه، وإما لكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد.

وعلي لما لم يوافق الذين أشاروا عليه بالقود، جرى بينه وبينهم من الحروب ما قد عُلم. وقتل قتلة عثمان أهون مما جرى بالجمل وصفين فإذا كان في هذا اجتهاد سائغ، ففي ذلك أولى.

وإن قالوا: عثمان كان مباح الدم.

قيل لهم: فلا يشك أحد في أن إباحة دم مالك بن نويرة أظهر من إباحة دم عثمان، بل مالك بن نويرة لا يُعرف أنه كان معصوم الدم، ولم يثبت ذلك عندنا. وأما عثمان فقد ثبت بالتواتر ونصوص الكتاب والسنة أنه كان معصوم الدم. وبين عثمان ومالك بن نويرة من الفرق ما لا يحصى عدده إلا الله تعالى.

ومن قال: إن عثمان كان مباح الدم، لم يمكنه أن يجعل علياً معصوم الدم، ولا الحسين؛ فإن عصمة دم عثمان أظهر من عصمة دم علي والحسين، وعثمان أبعد عن موجبات القتل من علي والحسين. وشُبهة قَتَلة عثمان أضعف بكثير من شبهة قَتَلَة علي والحسين؛ فإن عثمان لم يقتل مسلما، ولا قاتل أحداً على ولايته ولم يطلب قتال أحد على ولايته أصلاً؛ فإن وجب أن يُقال: من قتل خلقاً من المسلمين على ولايته إنه معصوم الدم، وإنه مجتهد فيما فعله، فلأن يُقال: عثمان معصوم الدم، وإنه مجتهد فيما فعله من الأموال والولايات بطريق الأولى والأحرى.

ثم يُقال: غاية ما يُقال في قصة مالك ابن نويرة: إنه كان معصوم الدم، وإن خالداً قتله بتأويل، وهذا لا يبيح قتل خالد، كما أن أسامة ابن زيد لما قتل الرجل الذي قال: لا إله إلا الله. وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أسامة: أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ يا أسامة أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟" فأنكر عليه قتله، ولم يوجب عليه قَوَداً ولا دية ولا كفارة.

وقد روى محمد بن جرير الطبري وغيره عن ابن عباس وقتادة أن هذه الآية: قوله تعالى: )ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا( الآية نزلت في شأن مرداس، رجل من غطفان، بعث النبي r جيشاً إلى قومه، عليهم غالب الليثي، ففر أصحابه ولم يفر. قال: إني مؤمن، فصبّحته الخيل، فسلّم عليهم، فقتلوه وأخذوا غنمه، فأنزل الله هذه الآية، وأمر رسول الله r برد أمواله إلى أهله وبديته إليهم، ونهى المؤمنين عن مثل ذلك.

وكذلك خالد بن الوليد قد قتل بني جذيمة متأولاً، ورفع النبي r يديه وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد". ومع هذا فلم يقتله النبي r لأنه كان متأولاً.

فإذا كان النبي r لم يقتله مع قتله غير واحد من المسلمين من بني جذيمة للتأويل، فلأن لا يقتله أبو بكر لقتله مالك ابن نويرة بطريق الأولى والأحرى.

وقد تقدم ما ذكره هذا الرافضي من فعل خالد ببني جذيمة، وهو يعلم أن النبي r لم يقتله، فكيف لم يجعل ذلك حجة لأبي بكر في أن لا يقتله ؟! لكن من كان متبعاً لهواه أعماه عن اتباع الهدى.

وقوله: إن عمر أشار بقتله.

فيقال: غاية هذا أن تكون مسألة اجتهاد، كان رأى أبي بكر فيها أن لا يقتل خالداً، وكان رأي عمر فيها قتله، وليس عمر بأعلم من أبي بكر: لا عند السنة ولا عند الشيعة، ولا يجب على أبي بكر ترك رأيه لرأي عمر، ولم يظهر بدليل شرعي أن قول عمر هو الراجح، فكيف يجوز أن يجعل مثل هذا عيباً لأبي بكر إلا من هو من أقل الناس علماً ودينا ؟

وليس عندنا أخبار صحيحة ثابتة بأن الأمر جرى على وجه يُوجب قتل خالد.

وأما ما ذكره من تزوجه بامرأته ليلة قتله؛ فهذا مما لم يُعرف ثبوته. ولو ثبت لكان هناك تأويل يمنع الرجم. والفقهاء مختلفون في عدة الوفاة: هل تجب للكافر؟ على قولين. وكذلك تنازعوا: هل يجب على الذمية عدة وفاة؟ على قولين مشهورين للمسلمين. بخلاف عدة الطلاق؛ فإن تلك سببها الوطء، فلابد من براءة الرحم. وأما عدة الوفاة فتجب بمجرد العقد، فإذا مات قبل الدخول بها فهل تعتد من الكافر أم لا؟ فيه نزاع. وكذلك إن كان دخل بها، وقد حاضت بعد الدخول حيضة.

هذا إذا كان الكافر أصلياً وأما المرتد إذا قتل، أو مات على ردته، ففي مذهب الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد ليس عليها عدة وفاة بل عدة فرقة بائنة، لأن النكاح بطل بردّة الزوج. وهذه الفرقة ليست طلاقاً عند الشافعي وأحمد، وهي طلاق عند مالك وأبى حنيفة، ولهذا لم يوجبوا عليها عدة وفاة، بل عدة فرقة بائنة، فإن كان لم يدخل بها فلا عدة عليها، كما ليس عليها عدة من الطلاق.

ومعلوم أن خالداً قتل مالك بن نويرة لأنه رآه مرتداً، فإذا كان لم يدخل بامرأته فلا عدة عليها عند عامة العلماء، وإن كان قد دخل بها فإنه يجب عليها استبراء بحيضة لا بعدة كاملة في أحد قوليهم، وفي الآخر بثلاث حيض. وإن كان كافراً أصلياً فليس على امرأته عدة وفاة في أحد قوليهم. وإذا كان الواجب استبراء بحيضة فقد تكون حاضت. ومن الفقهاء من يجعل بعض الحيضة استبراء، فإذا كانت في آخر الحيض جعل ذلك استبراءً لدلالته على براءة الرحم.

وبالجملة فنحن لم نعلم أن القضية وقعت على وجهٍ لا يسوغ فيها الاجتهاد ، والطعن بمثل ذلك من قول من يتكلم بلا علم، وهذا مما حرَّمه الله ورسوله.

(فصل)

قال الرافضي: "وخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم في توريث بنت النبي صلى الله عليه وسلم ومنعها فدكاً، وسمى بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يستخلفه".

والجواب: أما الميراث فجميع المسلمين مع أبي بكر في ذلك، ما خلا بعض الشيعة، وقد تقدّم الكلام في ذلك، وبيَّنا أن هذا من العلم الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن قول الرافضة باطل قطعا.

وكذلك ما ذكر من فدك، والخلفاء بعد أبي بكر على هذا القول. وأبو بكر وعمر لم يتعلقا من فدك ولا غيرها من العقار بشيء ولا أعطيا أهلهما من ذلك شيئاً. وقد أعطيا بني هاشم أضعاف أضعاف ذلك.

ثم لو احتجّ محتج بأن علياً كان يمنع المال ابن عباس وغيره من بني هاشم، حتى أخذ ابن عباس بعض مال البصرة وذهب له، لم يكن الجواب عن علي إلا بأنه إمام عادل قاصد للحق، لا يُتهم في ذلك، وهذا الجواب هو في حق أبي بكر بطريق الأولى والأحرى، وأبو بكر أعظم محبة لفاطمة ومراعاة لها من علي لابن عباس، وابن عباس بعلي أشبه من فاطمة بأبي بكر؛ فإن فضل أبي بكر على فاطمة أعظم من فضل علي على ابن عباس.

وليس تبرئة الإنسان لفاطمة من الظن والهوى بأولى من تبرئة أبي بكر؛ فإن أبا بكر إمام لا يتصرف لنفسه بل للمسلمين، والمال لم يأخذه لنفسه بل للمسلمين، وفاطمة تطلب لنفسها، وبالضرورة نعلم أن بُعْد الحاكم عن اتباع الهوى أعظم من بُعد الخصم الطالب لنفسه؛ فإن علم أبي بكر وغيره بمثل هذه القضية لكثرة مباشرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم من علم فاطمة.

وإذا كان أبو بكر أولى بعلم مثل ذلك، وأولى بالعدل، فمن جعل فاطمة أعلم منه في ذلك وأعدل، كان من أجهل الناس، لا سيما وجميع المسلمين الذين لا غرض لهم هم مع أبي بكر في هذه المسألة، فجميع أئمة الفقهاء عندهم أن الأنبياء لا يورِّثون مالاً، وكلهم يحب فاطمة ويعظِّم قدرها رضي الله عنها، لكن لا يترك ما علموه من قول النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد الناس، ولم يأمرهم الله ورسوله أن يأخذوا دينهم من غير محمد صلى الله عليه وسلم: لا عن أقاربه، ولا عن غير أقاربه، وإنما أمرهم الله بطاعة الرسول واتباعه.

وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: "لا أفلح قوم ولُّوا أمرهم امرأة" فكيف يسوغ للأمة أن تعدل عما علمته من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يُحكى عن فاطمة في كونها طلبت الميراث، تظن أنها ترث.



(فصل)

وأما تسميته بخليفة رسول الله؛ فإن المسلمين سمّوه بذلك، فإن كان الخليفة هو المستخلف، كما ادّعاه هذا، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخلفه، كما يقول ذلك من يقوله من أهل السنّة، وإن كان الخليفة هو الذي خَلَفَ غيره –وإن كان لم يستخلفه ذلك الغير كما يقوله الجمهور- لم يحتج في هذا الاسم إلى الاستخلاف.

والاستعمال الموجود في الكتاب والسنة يدل على أن هذا الاسم يتناول كل من خلف غيره: سواء استخلفه أو لم يستخلفه، كقوله تعالى : )ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون( وقوله تعالى: )وهو الذي جعلكم خلائف الأرض( الآية وقال: )ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون( وقوله: )واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح( وفي القصة الأخرى: )خلفاء من بعد عادٍ( )وقال موسى لأخيه هرون أخلفني في قومي( فهذا استخلاف .

وقال تعالى: )وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر( وقال: )إن في اختلاف الليل والنهار( أي هذا يخلف هذا، وهذا يخلف هذا، فهما يتعاقبان. وقال موسى: )عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون( وقال تعالى: )وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم( وقال للملائكة: )إني جاعل في الأرض خليفة( وقال: )يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض(.

فغالب هذه المواضع ليكون الثاني خليفة عن الأول، وإن كان الأول لم يستخلفه.

وسُمِّي الخليفة خليفة لأنه يخلف من قبله، والله تعالى جعله يخلفه، كما جعل الليل يخلف النهار، والنهار يخلف الليل. ليس المراد أنه خليفة عن الله، كما ظنه بعض الناس، كما قد بسطناه في موضع آخر.

والناس يسمُّون ولاة أمور المسلمين الخلفاء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي".

ومعلوم أن عثمان لم يستخلف علياً، وعمر لم يستخلف واحداً معيناً، كان يقول: "إن أستخلف فإن أبا بكر استخلف، وإن لم أستخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف".

وكان مع هذا يقول لأبي بكر: يا خليفة رسول الله، وكذلك خلفاء بني أمية وبني العباس، كثير منهم لم يستخلفه من قبله، فعُلم أن الاسم عام فيمن خَلَف غيره.

وفي الحديث –إن صح- "وددت أني رأيت" أو قال: "رحمة الله على خلفائي". قالوا: ومن خلفاؤك يا رسول الله ؟ قال: "الذين يُحْيون سنتي ويعلّمونها الناس".

وهذا إن صح من قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو حجة في المسألة، وإن لم يكن من قوله فهو يدل على أن الذي وضعه كان عادتهم استعمال لفظ "الخليفة" فيمن خلف غيره وإن لم يستخلفه، فإذا قام مقامه وسدَّ مسدّه في بعض الأمور فهو خليفة عنه في ذلك الأمر.

( المرجع : منهاج السنة ؛ 5 / 461-526).


 

 

 

 

    

رد مع اقتباس